يطل على المشهد الكارثي في غزة المحاصرة، والمستباحة تحت أنظار العالم سؤالان جوهريان.. الأول، التدخل البري المزمع، توقيته ومداه؟.. والثاني، ماذا بعده؟
الاحتمالات كلها واردة، والمنطقة توشك أن تشتعل بحرب إقليمية واسعة.
الاتهامات تلاحق رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” بعدم الاستعداد؛ لتحمل مسئولية الفشل الذريع في مواجهة عملية “طوفان الأقصى”.. وفجوات الثقة في جاهزية الجيش، وكفاءة الاستخبارات، تتزايد خشية خسائر بشرية فادحة أخرى.
لم تكن هناك أية معلومات يعتد بها عما يتوافر لدى “حماس” من أسلحة، ومستويات تدريب عالية، فيما توافرت لقوة الهجوم، التي شارك فيها ألفا “2000” مقاتل، خرائط دقيقة ومعلومات تفصيلية عن التمركزات، والمواقع العسكرية الإسرائيلية في غلاف غزة.
رغم استدعاء أكثر من (300) ألف من قوات الاحتياط، إلا أنهم لا يمتلكون التدريب الكافي؛ لخوض حرب مفتوحة من المسافة صفر، وجها لوجه مع مقاتلين مستعدين للتضحية بأرواحهم.
التوحش المتصاعد في قصف غزة عنوان على الأزمة المستحكمة؛ بشأن العملية البرية.. والشكوك الأمريكية في مدى جاهزية الجيش الإسرائيلي؛ لخوض حرب برية طويلة ومكلفة عنوان آخر.
وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن”، دعا نظيره الإسرائيلي إلى التريث؛ لحين تجهيز قواته المتمركزة في سوريا والعراق، حتى لا تجد نفسها في مهب الأخطار الداهمة، إذا ما اتسعت المواجهات.
بنفس الوقت كانت زيارة قائد المارينز، وقبله قائد القيادة المركزية الأمريكية، إلى تل أبيب تعبيرا عن شراكة استراتيجية وعسكرية كاملة، وتعبيرا آخر عن نوع من عدم الثقة في مستويات الكفاءة الحالية بالجيش الإسرائيلي.
حسب تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي، فإن العملية البرية سوف تستغرق وقتا طويلا، ثلاثة أسابيع على أقل تقدير، وهذه فترة لا تحتملها دولة كإسرائيل، بنت استراتيجية مواجهتها العسكرية السابقة، أن تكون الحرب خاطفة.
السيناريو الأسوأ، أن تُفتح جبهة قتال أخرى في الشمال مع “حزب الله”، الذي يمتلك قدرة تسليحية تقدرها الاستخبارات الإسرائيلية، بأنها عشرة أضعاف ما تملكه “حماس”.
الحرب الإقليمية، تكاد تكون شبه محتملة، إذا ما اقتحمت غزة بريا تحت قصف جوي أشد ضراوة.
لا يملك “حزب الله”، رغم أية رسائل وضغوط دولية وداخلية، إلا أن يتدخل بكل قوته في المواجهة مع إسرائيل؛ لتخفيف العبء على غزة، إذا لم يفعل ذلك يفقد بنفس اللحظة شرعية وجوده.
مأزق إيران، إنها لا تريد حربا إقليمية، تربك مصالحها وسياساتها؛ لتحسين أوضاعها الداخلية، وهذا حقها، لكنها إذا ما ضغطت على حلفائها الإقليميين وأهمهم “حزب الله”؛ لكي يحتفظوا بقواعد الاشتباك الحالية، تفقد صدقيتها وأدوارها الإقليمية معا.
من المستبعد أن تشارك إيران بصورة مباشرة في أية حرب إقليمية وشيكة، لكنها لن تمنع حلفاءها من دعم غزة إلى أبعد مدى يقدرون عليه.
الولايات المتحدة لا تريد بدورها أية حرب إقليمية واسعة، تؤثر بالسلب على مواجهات الجبهة الأوكرانية، لكنها غير مستعدة؛ لتقبل أية هزيمة استراتيجية تلحق بإسرائيل.
مرة بعد أخرى تحذر إيران، لكن سرعان ما تعود، لتقول إنه ليس لديها أي دليل يثبت تورطها.
أرسلت حاملتي طائرات،، وبوارج إلى شرق المتوسط، وألفين من جنود المارينز كرسالة ردع، لكن يصعب تصور انخراطها في الحرب، إلا إذا كانت إسرائيل على حافة الانهيار.
عند حافة السيناريوهات الخطرة كل دول المنطقة، تخشى عواقب الحرب الإقليمية، لكنها قد تحدث.
التورط الأمريكي في الحرب الإقليمية المحتملة يكلف الرئيس “جو بايدن” خسارة مؤكدة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وفق استطلاعات الرأي العام الأمريكية، فإن غالبيته لا توافق على دعم إدارته المطلق لإسرائيل.
أزمة الأسرى والرهائن، تمثل رادعا إضافيا لأية عملية برية في اللحظة الحالية.
تظاهرات في تل أبيب تطالب، وتلح على سلامة الرهائن.
وتصريحات غربية متواترة تطالب، وتلح على الهدف نفسه.
لا توجد معلومات عن أماكن احتجازهم في غزة، وهذه مشكلة تعوق أية مغامرة عسكرية؛ لإطلاق سراحهم.
استخدمت “ورقة الرهائن” سياسيا، وإعلاميا لتأليب الرأي العام الغربي، ضد “المتوحشين الفلسطينيين” قبل أن يثبت، أنها مجرد دعايات سوداء مثل، اغتصاب النساء وقتل الأطفال.
الأكاذيب لا تعيش طويلا، وجرائم الحرب لا تسقط بالتقادم.
إذا ما جرت أية عملية برية، فإنها تضحية بالرهائن، وهذا ما لا يمكن تقبله في الرأي العام الغربي.
الحكومات الغربية تعتبر الإفراج عن الرهائن أولوية، دون أن يبدر عنها أدنى تعاطف مع الضحية الفلسطينية، التي تتعرض على مدار الساعة إلى إبادة جماعية، تُقصف المستشفيات، دون عقاب، وتتناثر الجثث والأشلاء في الشوارع، دون غضب.
رغم كل الروادع التي تعوق التدخل البري، فإنه ما يزال مرجحا.
من غير المحتمل أن يتبنى مجلس الأمن الدولي قرارا بوقف إطلاق النار، على ما تدعو روسيا مدعومة من المجموعة العربية، فالفيتو الأمريكي جاهز.
وقف إطلاق النار الآن يصب لصالح “حماس”.
هكذا يعلن البيت الأبيض.
تحت ضغط التحولات الجارية في الرأي العام الأمريكي بأثر المشاهد البشعة في غزة، بدأت الإدارة، تتحدث عن استعدادها؛ لتقبل هدنة إنسانية، لا وقفا لإطلاق النار.
وقد كان اقتراح الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” بإنشاء تحالف دولي، وإقليمي جديد ضد “حماس”، كالذي أقيم ضد “داعش”، تعبيرا صارخا عن الهزل السياسي في مقام الجد.
هناك قضية شعب رازح تحت الاحتلال من حقه، أن يقرر مصيره بنفسه.
المقاومة المسلحة للاحتلالات الأجنبية حق، تكفله القوانين الدولية.
إذا كان يريد، أن يعرف الإرهاب الحقيقي، عليه فقط أن ينظر في صور غزة، التي تتعرض لأبشع المجازر في العصور الحديثة، أو أن يستمع بشيء من الضمير الإنساني إلى أمين عام الأمم المتحدة “أنطونيو جوتيرش”، وهو يحذر العالم كله من عواقب الإبادة الجماعية داعيا إسرائيل؛ لإعادة النظر في إخلاء غزة.
بترجمة سياسية أخرى، فهو يطلب التوقف عن سيناريو التهجير القسري.
مرة بعد أخرى يلمح وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” إلى ذلك السيناريو، رغم الاعتراض المصري الصريح عليه بتأييد عربي وإفريقي.
في إشارة جديدة إليه دعا إلى استدامة المساعدات الإنسانية لغزة، و”توفير ممر آمن”، قاصدا، دون مواربة السماح بالتهجير إلى سيناء.
“بايدن” لا يمانع في التهجير القسري، لكنه يحذر من إعادة احتلال غزة، دون أن يطرح بديلا سياسيا متماسكا، سوى إشارات عامة أقرب إلى حل الدولتين.
إذا افترضنا، أن اجتياحا بريا قد حدث.. ماذا بعده؟
هذا هو السؤال الجوهري الثاني الذي يطل على المشهد الكارثي في غزة المحاصرة.
وزير الدفاع الإسرائيلي يقول، إن الدولة العبرية سوف تتحلل من أية صلات بقطاع غزة بعد التخلص من “حماس”.
كيف؟!
هنا تتعدد السيناريوهات المتداولة.. وكلها يصعب قبولها، أو تمريرها.
الأول، إنشاء منطقة عازلة داخل القطاع، يسهل التحكم فيه على النحو الذي جرى سابقا في جنوب لبنان، وفشل بصورة ذريعة.
الثاني، إعلان حكومة مؤقتة في غزة بإشراف أممي بعد تصفية “حماس”.
الثالث، إسناد المهمة الأمنية في غزة لقوات عربية، وهو ما سوف ترفضه مصر، حيث يضرب بفداحة في أمنها القومي.
الرابع، عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة بوظيفة التنسيق الأمني، ومطاردة مقاتلي الفصائل المسلحة، وهو خيار ملغم بحروب أهلية مستجدة، والقبول به تنكر فاضح لآلاف الشهداء، الذين سقطوا من أجل أن ترفع فلسطين رأسها.