كان المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية قد أشار يوم الجمعة الماضي، إلى ارتفاع عدد شهداء العدوان الإسرائيلي إلى 7,326 من بينهم 3,038 طفلا، و1,726 إمرأة و414 مُسنًا. فيما وصلت أعداد الإصابات إلى 18,484، إضافة إلى نحو ألفي مفقود تحت الأنقاض، وقد كانت منظمة الصحة العالمية قد أعلنت في نفس اليوم، أن لديها قائمة مفصلة بأسماء 6,740 شخصا، قتلوا في غزة، منذ 7 أكتوبر، بالإضافة إلى وجود نحو 300 جثة، لم يتم التعرف على هوية أصحابها، بينما لا يزال نحو 1000 شخص، عالقين تحت الأنقاض في غزة، لم يتم التحقق، ما إذا كانوا على قيد الحياة.

كيف يمكن لعقلٍ طبيعيٍ أن يحتمل كل هذه الأعداد من الضحايا، خلال نحو 20 يومًا فقط؟ وتحت أي ذريعة، قد تبدو أخلاقية لبعض جهلاء العالم، يمكن تسويغ هذا القدر من شهوة الانتقام، وشبق الدم؟ حتى ما يسوقونه من ذرائع؛ لتسويغ ما يُقتَرَف من مذابح، هو أمرٌ لا يتسق أبدًا مع حجم تلك المذابح اليومية غير المسبوقة التي تستحق أن تندرج بامتيازٍ تحت التعريف الأُممي “لجرائم الإبادة الجماعية” Genocide.

تشير الموسوعة الأمريكية لذكرى الهولوكوست، إلى أن مصطلح “الإبادة الجماعية” لم يكن مُتدَوَلًا، فيما قبل عام 1944، وأن محاميا يهوديا بولنديا اسمه “رافاييل ليمكين” كان قد بدأ في وضع وصفٍ للسياسات النازية للقتل المنظم، لتوظيف ذلك سياسيًا؛ من أجل الترويج لضحايا الهولوكوست، باعتبار أن ما حدث هو إبادة للشعب اليهودي الأوروبي. وقام الرجل بتشكيل مصطلح “الإبادة الجماعية“(Genocide) عن طريق الجمع بين كلمة (-geno) اليونانية، والتي تعني سلالة أو عرق أو قبيلة، مع كلمة (cide-) اللاتينية التي تعني القتل. وكان أن اشتملت قائمة الاتهامات التي وُجِهت إلى كبار القادة النازيين المُتَهمين الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية بمحاكمات نورمبيرج في عام 1945، تعبير “الإبادة الجماعية”، باعتباره وصفًا سياسيًا لا مُصطَلحًا قانونيًا حينذاك.

في ديسمبر 1948، اعتمدت الأمم المتحدة اتفاقية ملزمة تقضي بمنع جرائم “الإبادة الجماعية”، ومعاقبة مُرتكبيها باعتبارها جريمة دولية، ما اقتضى وضع تعريف لها. تم تعريف جريمة “الإبادة الجماعية” باعتبارها “ارتكابًا لأي من الأعمال بقصد الإبادة الكلية أو الجزئية، لجماعةٍ ما على أساس القومية أو العرق أو الجنس أو الدين مثل قتل أعضاء تلك الجماعة، أو إلحاق الأذى الجسدي، أو النفسي الخطير بأعضائها، أو إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشية لهم؛ بهدف التدمير الفعلى لهم كليًا أو جزئيًا، أو فرض إجراءات تهدف إلى منع المواليد، أو نقل الأطفال إلى جماعة أخرى”. مُدهشَةٌ حقًا هى ألاعيب التاريخ اللئيم ،كما يصفه هيجل، فها هي تعريفات الاتفاقات الدولية التي صاغها ضحايا الهولوكوست 1941-1944، حول الإبادة الجماعية، تنطبق تمامًا على ما يفعله أحفادهم بأهالي غزة في 2023.

كنت قد شاهدت، منذ نحو الشهر تقريبًا، فيلمًا اسمه “الكونت” على أحد المنصات الأمريكية، وهو يحكي عن سفاح تشيلي الشهير “أوجوستو بينوتشيه”، لكن على نسق خياليٍ مُبهِر، ربط فيه صانعو الفيلم بين قصة حياة الرجل الذي كان، يحلو له أن يناديه الناس بلقب الكونت، وبين أسطورة مصاص الدماء الأمريكية (الفامباير). تم عرض الفيلم بالأبيض والأسود مع استخدام موسيقى، اعتمدت على آلة التشيلو التي زادت على قتامة الفيلم مستوى من الكابوسية، يليق بحياة الكونت بينوتشيه مصاص الدماء. استخدم صانعو الفيلم فكرة، أن مصاص الدماء يصير سفاحًا خالدًا، لا يموت، فقد عاش 250 عامًا، منذ الثورة الفرنسية حين شرب من دماء مارى أنطوانيت، ثم انتقلت روحه عبر العصور من سفاحٍ لآخر، إلى أن وصلت لجسد أوجوستو بينوتشيه. في نهاية الفيلم، تحضر ماجي أُمُ السفاح وأنثى الفامباير، كى تزوره، ثم تشكره، على أنه وقف إلى جوار بلادها في معركة فوكلاند، ليدرك المشاهد في واحد من أذكى مشاهد الفانتازيا بالفيلم وأعمقها دلالة، أن أُمُ السفاح هي مارجريت تاتشر. تداعت صور الفيلم، وإشاراته إلى ذهني بمطلع الأسبوع الماضي مع تصاعد، وتيرة أعمال الذبح اليومية والإبادة الجماعية التي يقوم بها مصاص الدماء الإسرائيلي، استكمالًا لمسيرة الكونت بينوتشيه الذي مات، وقد تجاوز التسعين من العُمر، دون عقاب عن تلك الأعمال، وكأنه بعدما أتَم مَهمَته، قام بِعَضِّ بنيامين نتانياهو؛ لتحل فيه روحه فيصير فامباير العصر. هل يلقى الكونت نتنياهو عقوبته العادلة عن أعمال الإبادة الجماعية التاريخية بِحَق الشعب الفلسطينى الصامد في إعجازٍ مُذهلٍ، أم أن أسطورة الفامباير ستستمر خالدةً عبر الزمن….أنا لا إجابة لديَّ.