في الوقت الذي تنجذب فيه الأنظار، والضمائر الحية نحو غزة في مواجهتها؛ لحالة الإبادة البربرية لسكانها من الفلسطينيين التي تمارسها إسرائيل بمساندة المجتمع الدولي، فإن على حدودنا الجنوبية في السودان تطورات، من شأنها أن تشكل ضغوطا إضافية على مصر على الصعيدين الاستراتيجي والإنساني، وربما من المهم الانتباه لها في المجال العام المصري على نحو مساو من المتابعة والاهتمام، لما يجري على حدودنا الشمالية الشرقية.
التطورات السودانية في هذه المرحلة على ثلاثة مسارات، المسار العسكري، وهو أخطرها، ومسار محاولة وقف الحرب في جدة، أما المسار الثالث، فهو مسار المدنيين الصاعدين على جبل متعرج صعب التضاريس؛ بهدف الحفاظ على دولة السودان فيه كدولة موحدة مدنية ديمقراطية، ترنو نحو الحداثة.
المسار العسكري يشهد، ماتوقعناه سابقا، أن تتجه قوات الدعم السريع للتركيز على ‘إقليم دارفور، بعد أن تم الضغط عليها عسكريا في الخرطوم من جانب الجيش طوال الشهر الماضي، بحيث يتحول الإقليم إلى نقطة ارتكاز عسكرية رئيسية للدعم السريع، تستطيع انطلاقا منها إحداث تغيير كبير في المشهد السوداني، وذلك تأسيسا على ما جرى مؤخرا من انسحاب الفرقة ١٦ للجيش السوداني من عاصمة إقليم دارفور نيالا، وهي الفرقة التي تملك ٨ نقاط ارتكاز عسكرية، داخل المدينة وضعفها تقريبا خارجها، متضمنة نقاط لسلاح الإشارة، والنقل فضلا عن مخزونات لوجستية، وطبقا لذلك أعلنت قوات الدعم السريع عن استيلاءها عل المدنية بالكامل.
على الصعيد العسكري، سوف يشكل مطار نيالا، بديلا لمطار أم جرس في تشاد؛ لتلقي الإمدادات العسكرية، والطبية والغذائية لقوات الدعم السريع، وذلك في حالة تغير موقف تشاد، ضد الدعم السريع؛ لتفاعلات داخلية فيها، ربما هذا التطور يجعل الطريق مفتوحا لباقي إقليم دارفور بكامله، والذي تزيد مساحته عن دولة مثل فرنسا، وقد يشكل ثلث الدولة السودانية التي نعرف حاليا، كما يفتح الباب على مصراعيه؛ للاستيلاء على مدنية الأبيض التي تعاني حصارا من جانب الدعم السريع على مدى الثلاثة أشهر الماضية، وهي عاصمة ولاية شمال كردفان، وبورصة حبوب السودان، وطريق التجارة السودانية نحو مصر، خصوصا السمسم، وباقي الحبوب الزيتية.
على الصعيد الاقتصادي، فإنه إل جانب موارد الذهب التي هي في معظمها حاليا، تحت ولاية الدعم السريع، فإن الاستيلاء على مدينة نيالا يعني السيطرة على مورد الصمغ العربي، وعلى ثروة حيوانية هائلة، فطبقا لتجربتي، فإن قطيع الماشية في ولاية جنوب دارفور، يشكل للنظر امتدادا لا نهائيا بديعا، ومبهجا متعدد الألوان.
مورد الصمغ العربي الذي استولت على مقدراته قوات الدعم السريع، هو مورد استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، باعتباره أساسيا في منتجات الكوكا بأنواعها الأمريكية، والتي تشكل رافدا من روافد الاقتصاد الأمريكي، أما الثروة الحيوانية فهي أحد الموارد الأساسية للاقتصاد السوداني في حال قيام دولة فاعلة فيه.
على الصعيد السياسي والاستراتيجي، أصبح للدعم السريع مساحة تعادل دولة في دارفور، وموارد لهذه الدولة، وسكان في غالبيتهم لديهم مشتركات إثنية، وعرقية، وعلاقات بمنطقة الساحل الإفريقي، توفر له داعم بأشكال متعددة.
هذه المعطيات الجديدة في خريطة توازنات القوة، يمكن ترجمتها كالتالي أولا: أن الموقف التفاوضي للدعم السريع هو حاليا أفضل من ذي قبل، وأن تباطيء البرهان في الذهاب إلى منبر جدة، كما دعوناه قبل شهر، قد أسفر عن خسارة كبيرة لوزن الجيش التفاوضي، ثانيا: أن الدعم السريع قد يتجه؛ لتشكيل سلطة مدنية في دارفور كحكومة مثلا، بغض النظر عن إعلان البرهان لحكومة في بورتسودان من عدمه، كما يعني ثالثا: أن احتياج قيادة الدعم السريع لداعم سياسي مثل قوى الحرية والتغيير، أو أية جبهة مرتقب تشكيلها من المكون المدني قد تلاشت ، وهو أمر بالتأكيد له تجلياته وانعكاساته على المعادلة السياسية في المرحلة القادمة، رابعا: يبدو أن الدعم السياسي، والميليشياوي الذي وجده الجيش من قوى النظام القديم ورموزه، وأهمهم علي كرتي، لم يحقق دعما عسكريا حقيقيا للجيش على الأرض، وذلك رغم صوت هذه الفصائل السياسي العالي، وممارستهم لضغوط على قيادات الجيش المهنية، حيث ثبت واقعيا، أن الضجيج بلا طحين .
وفي الأخير أو خامسا: فإن ثمة تفاهمات وتحالفات جديدة، سوف تبرز بين القوي السياسية، والتجليات القبلية في دارفور على أسس جديدة، لا أستبعد معها وحدة المكون الدارفوري في المرحلة المقبلة في مقابل باقي التكوين القومي السوداني ، وهو اتجاه تمت زراعة بذرته الأولى في اجتماعات توجو لو تذكرونها.
هذه النقاط الخمس، تعني ضمن ما تعني، أننا أمام تقسيم فعلي للسودان في غضون عام، ربما أو أكثر هذا التقسيم، قد يكون بلا علم ونشيد في مرحلته الأولى، أي دون إعلان دولة مستقلة في دارفور.
في تقديري، أن هذا التطور يتماهى على نحو ما مع المناهج التي تم تدشينها في اجتماعات أديس أبابا التحضيرية من جانب المكون المدني، فعلى الرغم من حسن النية، ونبل المقاصد من القوى السياسية، والمدنية السودانية بشكل عام، فإن الاعتماد على مناهج المحاصصة التي تم بيانها في البيان الختامي، هي أسلوب غربي، بامتياز يفجر الخلافات، ويدمغ مهندسيه بالسعي وراء سلطات أكثر من صناعة توافقات سياسية ووطنية، خصوصا وأن اجتماعات أديس أبابا هي تحضيرية، ورغم ضخامة عدد من حضروا، فإن هناك من الرموز السياسية والمدنية من كانت لديه تحفظات، كان من الضروري أخذها بعين الاعتبار، وكلها أمور تجعلنا، نقول إن زرع بذور الخلاف عبر مناهج بعينها في معسكر الجانب المدني مطلوبة، حتى يتم التموضع الجديد للدعم السريع الذي هو يلبي وظائف للمعسكر الغربي في كل إقليم الساحل الإفريقي على نحو ما فصلناه في مقال سابق تحت عنوان، ماذا تريد واشنطن من الدعم السريع؟.
هذا المشهد، يطرح تساؤلا؛ بشأن منبر جدة، ومدى قدرته على تجاوز مسارات تدشين النموذج الليبي في السودان، وذلك في ضوء ما رشح من تسريبات؛ بشأن التوقف عند النقطة التي وصل إليها في المراحل السابقة، أي الاهتمام بالملفات الإنسانية، بينما يقبع التفاوض على وقف الحرب في الظل حتى الآن.
في تقديري، أنه وبسبب التموضع الجديد للدعم السريع في دارفور، سوف يوافق الدعم السريع على الانسحاب من المستشفيات في الخرطوم، ومن بيوت الأهالي مع الحفاظ على نقاط تمركزه العسكري، فقد توافرت له مساحة كبيرة في دارفور، يستطيع فيها تلبية متطلبات قواته العسكرية، والطبية والعسكرية، بل ودعمها وزيادة قدراتها، خلال ما تبقى من وقت؛ لإعادة تشكيل وطن، كان ٢ مليوني كيلو مربع، لكن لم يرد العالم، أن يظل السودان هكذا، بما شكله من إمكانات لدعم محيطيه العربي، والإفريقي على الصعيدين الاقتصادي والغذائي.