لم يجد الخديو إسماعيل برلماناً يمثل الشعب ويضع ضوابط للاستدانة والقروض الأجنبية فأغرق البلاد في ديون تحملتها سبعة أجيال من المصريين، فقد استمر اعتصار دم المصريين لسداد هذه الديون حتى العقد الخامس من القرن العشرين، فضلاً عن احتلال أجنبي مسلح دام أكثر من سبعة عقود، فقد ذهب الخديو إسماعيل لكن بقيت ديونه يتوارث أعباءها المصريون جيلاً بعد جيل، أجيال لم تكن حاضرة ساعة الاستدانة، ولم يكن لها رأي، ولم يستشرها أحد قبل تحميلها الديون الثقال من قبل أن تولد هذه الأجيال وترى نور الحياة في ظل الديون وفي ظل الاحتلال معاً.
كذلك لم يجد الرئيس عبد الفتاح السيسي برلماناً يمثل الشعب، ويستحضر عبرة التاريخ ويقف في وجه الاستدانة الزائدة عن المعقول لأجل مشاريع باذخة فاخرة ذات طابع إمبراطوري لا تستجيب لأولويات الشعب ومصالحه، فكلما استهواه مشروعا، مدروسا أو غير مدروس، مربحا أو غير مربح، جاء له بقروض، ووافق البرلمان على هذه القروض، حتى صارت ديون البلاد هي الهرم الأكبر، أعلى من خوفو وخفرع، شيده الرئيس بمفرده وموافقة برلمانه، وسوف تتحملها سبعة أجيال بريئة من المصريين حتى نهاية هذا القرن الحادي والعشرين، وهذه السياسة الخديوية هي آخر ما كان يتوقع المصريون أن يعيشوه في القرن الحادي والعشرين، كانوا يظنون أن ذلك مجرد تاريخ قديم، لم يكن يدور في ذهن أكثر المصريين تشاؤماً أن يقفز ذلك التاريخ الخديوي البغيض من مدافنه في القرن التاسع عشر ثم يفسد عليهم حياتهم في القرن الحادي والعشرين، وسيدخل المصريون الذين عاشوا ثم عانوا السنوات العشر 2013 – 2023م التاريخ أنهم سُلبوا هناء العيش وغُصب منهم يسر الحياة واضطُروا للتقشف كما لو كانت البلاد خاضت خلال تلك السنوات حروباً عسكريةً متواصلة على كل الجبهات، لقد تم استنزاف جيوب المصريين وإفقارهم وتجريدهم من الرغيف والغموس دون أن يكون مسموحاً لهم بصوت أو رأي أو مشورة أو احتجاج، فالقهر سبق الفقر ومهد له وأدى إليه، فأصبح المصريون تحت مزدوج من القهر والفقر يجتمعان ولا يفترقان.
الخديو إسماعيل لم يجد في تاريخنا سوابق من خطر الاستدانة فيتوقف عندها ويدرسها ويعتبِر من نتائجها، كان هو أول من شق طريق الاستدانة الباذخة، وكان أول من عرف ثمنها: فقد عرشه، عرض بلده للاحتلال، كبل بالديون سبعة أجيال. لذا لم يكرر هذا الخطأ حاكم من بعده، لا في عهود الاحتلال ولا في عهود الاستقلال، لا من أبنائه وأحفاده الذين ورثوا الحكم من بعده، ولا من حكام دولة 23 يوليو من ضباط الجيش.
الاستثناء الأوحد هو الرئيس الحالي، وقد زاول صنعة الحكم متحرراً من دروس التاريخ، ومتحرراً من سلطة الشعب، ومتحرراً من ضغط المؤسسات، ومستغنياً عن مشورة الخبراء، وغير مؤمن بالرأي الآخر، تحرر من كل قيد، فاستدان بما لم يفعله حاكم من قبله، وبما لن يفعله حاكم من بعده. خطأ الخديو إسماعيل من الضخامة والحضور في الذاكرة السياسية العامة للمصريين بحيث صار من العقد النفسية التي ترقى لتكون عقائد سياسية، ومن ثم فإن إعادة ارتكاب الخطأ ذاته- لكن مضروباً في مائة سوف تكون له تداعيات ضخمة على مسيرة مصر وشعبها حتى نهاية هذا القرن الحادي والعشرين، وقد بدأت معاناة عامة المصريين مع أمور المعاش الكبرى:
1 – التغذية السليمة التي لم تعد سليمة مع ارتفاع أسعار المأكولات من لحوم ودواجن وبيض وألبان وأجبان وسمن وزيوت وخضروات وفواكه وبقوليات ومخبوزات، ارتفعت عشرة أضعاف سعرها، تقشف المصريون فوق طاقتهم، قللوا من كميات ما يستخدمون، ارتضوا بما كان أقل جودة من السلع الغذائية، باتت عملية تحضير الوجبات الثلاث ثلاث معارك تخوضها الأسرة المصرية في اليوم ثلاث مرات، وفي غيبة الحلول، وفي استمرار المعاناة، سوف تنشأ أجيال هزيلة التكوين البدني معلولة الصحة تعاني أضرار الحرمان وعدم الشبع وعدم الاكتفاء، أجيال المستقبل في ظل الديون هزيلة بين جوع وحرمان وتغذية غير سليمة كماً وكيفاً.
2 – الخدمات الصحية غير الوافية، عجز أغلبية المصريين عن توفير نفقات الفحص الطبي في الوقت اللازم، ثم العجز عن توفير نفقات الفحص في المختبرات ومراكز الأشعة، ثم العجز عن توفير نفقات الأدوية، ثم العجز عن توفير نفقات الإقامة أو المتابعة في المستشفيات، مع عجز منظومة المستشفيات العمومية عن توفير الحدود الدنيا من الخدمات، مع دوام الفقر، وذهاب موارد البلاد لسداد الديون وفوائد الديون وفوائد فوائد الديون، سوف يتراجع أكثر وأكثر: أ- قدرة المصريين على تدبير نفقات العلاج. ب- قدرة المنظومة الصحية الحكومية على توفير الحد الأدنى. ج- قدرة مؤسسات العلاج الاستثماري على الاستمرار.
3 – أما أهم أمور المعاش الكبرى التي تضررت من قبل مَجِيء الرئيس السيسي فهي التعليم، لكن في عهده تراجعت كفاءة التعليم الرسمي منه والاستثماري، ولا يوجد أدنى اهتمام به في فكر الرئيس منذ ترك الوزير طارق شوقي وزارة التعليم قبل الجامعي في عام 2022م، هذا الوزير يحسب له أنه كان يحاول ولو أنها كانت محاولات حالمة مفصولة عن الواقع البائس لعموم الأسر المصرية، ثم من بعده أصبح التعليم متروكاً لنفسه مع نفسه، منظومة مفكوكة عشوائية، الدولة تنسحب منها، والبزنس يلعب فيها، والأسرة المصرية تتعذب وتشقى بها، ومستقبل التلاميذ على كف المجهول، غير معروف مدى تواكب تعليمهم مع عصرهم، وغير معلوم مدى قدرتهم على التنافس مع نظرائهم في المنظومات التعليمية في العالم، المدارس فارغة من التلاميذ، والمدرسون يجوبون عليهم في البيوت، والأسرة تعتصر نفسها لتوفير ثمن الدروس. أجيال لم تنشأ في مدرسة، هي أجيال ناقصة التكوين الإنساني والعلمي والتربوي والوطني، المدرسة كانت هي رسول الحداثة ومنصة الاستنارة وبيت العالم ودار الوطنية في كل قرية مصرية، المدرسة كانت أساس التحديث ونقطة الانطلاق فيه ولبنته الأولى، ما آل، وما سيؤول، إليه حال المدارس من تعطيل عن أداء دورها، هو أكبر خطر على حاضر مصر ومستقبلها.
في خديوية إسماعيل في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، كانت أمور المعاش الكبرى من غذاء وعلاج وتعليم لا تحتل المكانة التي تحتلها- أو ينبغي أن تحظى بها، في الجمهورية الجديدة- في الثلث الأول من القرن الحادي والعشرين. في عهد الخديو إسماعيل كان التباهي بالحجر سياسةً معمولاً بها في العالم كله، أما في عهد الجمهورية الجديدة، فالدنيا المتحضرة باتت تتفاخر بالبشر ولا تتباهى بالحجر، والمشكلة الآن أن تكاليف ما شيده الرئيس من حجر سوف تجور على حقوق البشر في: الغذاء والعلاج والتعليم على مدى سبعة أجيال على الأقل.
السؤال الآن: لماذ حدث ما حدث في المرتين؟ لماذا يتمتع الحاكم بسلطة فردية مطلقة ينتج عنها أضرار جسيمة تلحق الشر والأذى بعموم مصر والمصريين لعدة أجيال؟
1 – حدث في المرة الأولى لأن الخديو إسماعيل مالك للبلد، مالك على وجه الحقيقة، مالك وليس مواطن، لم تكن المواطنة ظهرت كفكرة، ولم تكن فكرة الوطن الذي يتساوى فيه جميع أبنائه غير كلام نظري ترجمه رفاعة الطهطاوي من كتب فرنسا الثورية، الخديو تصرف بصفته مالك يحكم في ملكه وملك أبيه وجده، فمصر امتلكها جده محمد علي باشا وأبوه القائد إبراهيم بمزيج من المكر والخداع مع الحرب والسلاح، امتلكها الرجلان بوضع اليد، ثم جاءت اتفاقية لندن 1840م وأضفت الشرعية الدولية على وضع اليد، فصارت مصر ضيعة كبرى تتوارثها ذرية الباشا ونجله القائد إبراهيم. إسماعيل كان يتصرف فيما ملك، فكل شيء حوله كان من بناء جده وأبيه، لم يكن يرى غير نفسه وسلالته، فكل من حوله من كبار رجال الخديوية ليسوا أكثر من صنائع صنعها جده وأبوه، ولم يكن للمصريين صوت مسموع منذ أسس جده الباشا الدولة الحديثة كجهاز تسلط وضبط وقهر وإحكام القبضة على أنفاس المصريين ولو بالكرباج، الدولة الحديثة التي أسسها الباشا كانت حداثة في يدها كرباج. خديوية إسماعيل كانت خلاصة هذه الحداثة ذات الكرباج، قلبها في أوروبا، وسطوتها على الشعب.
2 – ثم حدث في المرة الثانية لأن الجمهورية الجديدة نسخت العقد الاجتماعي للجمهورية القديمة من عبد الناصر إلى مبارك، العقد القديم كان الحكم للجيش لكن مع إرضاء الشعب ووضعه في الحسبان ومراعاة خاطره، الجيش في الأعلى والشعب في الأدنى لكن المعادلة كانت من طرفين لهما حقوق وعليهما واجبات. الجيش والشعب بطارية واحدة أولهما موجب وثانيهما سالب. لكن الجمهورية الجديدة معادلة وحيدة الطرف، وحيدة القرن، وحيدة الفكر، وحيدة الالتزام، الشعب لا مكان له في وحدتها، الشعب- في وجودها- فقد مقعد الطرف الثاني، فقد مركز الشريك الثاني، فقد ترتيبه بعد الجيش، الشعب خرج أو أُخرج من المعادلة. ففي المرات التي تظهر فيها المخاطر والتحديات يعلن الرئيس عن قوى مواجهة المخاطر فيقول “أنا والجيش والشرطة ” لا يقول الشعب، ولا يتذكر الشعب، إلا عندما يهدد بطلب تفويض، وهو يعلم أن التفويض الأول صدر من الشعب أيام كان يسمع كلمات التغزل والتحبب مثل ” أنتم نور عينيا “، ومثل “الشعب لم يجد من يحنو عليه”، لكن الخبرة العملية كشفت للشعب أن كلمات الحب والغزل لم تكن غير دهان ذاب تحت ضوء الحقيقة، حقيقة عشر سنوات غير مسبوقة من القهر ثم الفقر، انتهت أيام التفويض إلى الأبد، وقد ثبت ذلك – بالدليل العملي – في 20 أكتوبر 2023م حين تم إنزال الشعب إلى الشوارع حتى يمنح الرئيس تفويضاً، فرد الشعب رده الخالد ” دي مظاهرة بجد ،،، مش تفويض لحد “، ثم الرد العبقري ” تفويض إيه يا عم ،،، فلسطين أهم “، وردت السلطة على التحية بأحسن منها فاعتقلت العشرات من القاهرة والاسكندرية.
3 – قبل الخديو إسماعيل كان الحكام من أسرته يتوارثون الحذر في سياستهم، الحذر من الشعب الذي هم غرباء عنه طارئون عليه لا يربطهم به غير الرعوية العثمانية المهترئة، الحذر من الغرب الذي يساعدهم لغرض النكاية في الدولة العثمانية أو لغرض النكاية المتبادلة بين فرنسا وبريطانيا لكنه ضد استفحال قوتهم، ثم الحذر بعضهم من بعض داخل أسرة محمد علي باشا، الحذر حتى من الأبناء والأشقاء وبعض الأقوياء من البطانة المقربة منهم. تخلى الخديو إسماعيل عن بعض هذا الحذر، منح ثقته لأوروبا، التي خذلته، ثم اتفقت على عزله.
4 – قبل الجمهورية الجديدة، كان الحكام من الضباط يصدرون في كل ظهورهم العام عن توقير وإجلال ومهابة للشعب، لم يحدث أن أظهر أحدهم أنه صاحب فضل على الشعب، أو أنه يفهم أكثر من الشعب، أو أنه لديه من العقل والعبقرية والحكمة ما يستعلي به على الشعب، أو يجرؤ على الاستغناء عن النابهين والنابغين من الشعب، توافق الرؤساء من عبد الناصر حتى مبارك على تسويق فكرة أن الحاكم واحد من الشعب، وخادم للشعب، ويستحيل أن يكون فوق الشعب. هذا التراث لم يصمد- في عهد الجمهورية الجديدة- إلا فترة محدودة جداً، ثم بدأ يظهر نموذج الرئيس الأستاذ، الرئيس العبقري، الرئيس المتفرد، الرئيس الذي يعرف ما قد خفي عن الجميع، الرئيس الذي يحمل الهموم على ظهره والأثقال فوق رأسه، الرئيس الذي أحاط بالمشكلات درساً وأحاط بالحلول فهماً. الرئيس الذي لا يعرف الخطأ، وليس محل شك، ولا محل تساؤل، ولا مجال لمراجعته أو نقده ناهيك عن محاسبته أو مساءلته. أول رئيس يخاطب الشعب جالساً، ومن وراء ظهره. هذا تطور ليس فقط في شكل النظام الجمهوري لكن في مضمونه، تطور خديوي أكثر منه جمهوري. تطور سلبي، تطور إلى الخلف، تفريغ الجمهورية من أبسط معانيها.
5 – عندما ضاق الخناق على الخديو إسماعيل لجأ إلى تقليد لم يسبقه إليه حاكم من أسرته من قبل، حرك القوى الحية من الشعب في أعمال ثورية، حركهم من وراء ستار، شجع على تكوين الأحزاب، شجع على التحالف بين المدنيين والعسكريين، شجع المدنيين على رفع نبرة المعارضة في الصحف والبرلمان، بل شجع العسكريين على التظاهر، وقف وراء فكرة الدستور والمجلس النيابي، لعب بكل ذلك بقصد الوقوف في وجه الغرب، الغرب الذي يمثل مصالح أصحاب الديون، الغرب الذي يهدد بعزله، فعل إسماعيل كل ذلك، لم يستفد منه لأن المقدور قد وقع والإفلاس اكتمل، لكنه بذر بذور وأرسى جذور الثورة العرابية، كما بسط الطريق مفروشاً أمام الاحتلال.
6 – هذا الخيار، خيار اكتشاف قوة الشعوب، واللجوء إلى الشعب، صعب جداً الآن لأسباب: صحيح الدولة لم تعلن إفلاسها لكن الناس أفلست، البيوت أفلست، الاقتصاد على حد الكفاف، هذا الوضع يخلق حالة من الغضب الواسع والعميق لكنه كامن، كامن تحت السطح بقوة ما يتبدى بين وحين من استعداد جاهز للقمع والبطش، وحين يثبت- باليقين- أن الجاهزية للقمع والبطش قد زالت سوف يخرج الغضب عن كمونه وكبته. بعد عشر سنوات من القهر المنظم والفقر المؤكد صعب أن يكون الرئيس مع الشعب، وصعب أن يصدق الشعب وعداً من الرئيس، فالأحياء من المصريين- من كل الطبقات- لم يعيشوا أياما ولا سنوات أشق وأعسر وأصعب من أيام الرئيس، بما في ذلك سنوات الحرب في عهدي عبد الناصر والسادات.
7- الفرق بين الخديو والرئيس:
أ- أن الخديو كانت لديه مرونة عبرت عن نفسها باستعداده للبحث عن حلول، وكان من الممكن جداً أن يتم الاهتداء إلى حلول، لكن إرادة الغرب لم تمهله، كانت إرادة بريطانيا وفرنسا قد انعقدت على عزله، وكان بعض أكابر رجاله على استعداد لبيعه، وكان السلطان العثماني لا يمانع، صدر القرار، وانعزل بالفعل.
ب- الرئيس ليس عليه الضغط الدولي الذي كان على الخديو، لكن ليس لديه القدر من المرونة، أي تقديم تنازلات كبيرة كما فعل الخديو، الخديو تنازل عن إدارة أملاكه الخاصة لصالح سداد الديون، كما تنازل عن قدر كبير من سلطته كحاكم سلطوي شرقي فردي مطلق. الرئيس ثابت على منهجه في الحكم والإدارة، رغم أن هذا المنهج قهر المصريين، ثم أفقرهم، ثم يقف بالمستورين منهم على بعد عدة خطوات من النزول إلى نواصي الشوارع وأبواب المساجد بقصد التسول وسؤال المارة والمصلين.
السؤال: كيف نمنع تكرار ما حدث؟
الجواب: تمكين الشعب أن يقول للحاكم لا، عندما تكون هي المصلحة العامة؟
السؤال: كيف نُمكن الشعب أن يقول لا؟
الجواب: هذا مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.