في إبريل (2001) فكرت جريدة “العربي” أن تستقبل زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي “شيمون بيريز” بـ “فوتو مونتاج” تصوره في زي الزعيم النازي “أدولف هتلر”.

فاق رد فعل “بيريز” أي توقع، كأن اتهامه بالعنصرية خروج عن النص، أو افتراء على الحقيقة!

اشتكى للرئيس المصري “حسني مبارك”، وأبدى امتعاضه في مؤتمر صحفي جمعه مع وزير الخارجية “عمرو موسى”، مما نسب إليه من أوصاف تتهمه بالعنصرية والنازية.

قال “عمرو موسى”: “إنها حرية الصحافة”.

حسب تعبير جريدة “كورييرا ديللا سيرا” الإيطالية: “طار صواب بيريز”.

لقوة تأثيرها، وصفت الصحيفة الإيطالية “العربي”، التي تصدر بالكاد تحت وطأة أزماتها المتراكمة، بأنها “الصحيفة العربية الأولى”.

طلب “بيريز” اعتذارًا، كانت تلك مزحة سياسية ثقيلة، لم يُجارِه فيها أحد.

الصحافة الإسرائيلية سجلت نشوة “عمرو موسى”، وهو يدافع عن “العربي”.

لخصت “يديعوت آحرنوت” الجانب الآخر في الصراع بوصف “العربي”، بأنها “جريدة مثيرة للغثيان”!

عندما غيب الموت “شيمون بيريز” شتاء (2016)، طُرح سؤال إسرائيلي غريب بمنطوقه ومغزاه: “لماذا يصمت العالم العربي؟”، كأنه يفترض أن الخسارة فيه فادحة كواحد من صناع السلام!

لم يكن ممكنا طرح سؤال الصمت، ولو بخداع الذات، لو أن الحقائق وحدها تحدثت.

فـ”بيريز” الذي حصل على جائزة “نوبل للسلام” عام (١٩٩٤)، مع الزعيم الفلسطيني الراحل “ياسر عرفات” ورئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت “إسحاق رابين”، هو نفسه الذي أمر بعدها بمجزرة “قانا”، التي استهدفت مدنيين، احتموا بمقر للأمم المتحدة من الغارات الوحشية جنوب لبنان.

كانت المجزرة مروعة، وأثارت صورها غضبًا في أوساط الأمم المتحدة، التي أجرت تحقيقًا أدانها بلهجة غير معهودة، عندما يتعلق الأمر بالجرائم الإسرائيلية.

على إثر التقرير الأممي الذي وثق لجريمة مكتملة الأركان، “ضد الإنسانية”، خرج أمين عام الأمم المتحدة الدكتور “بطرس غالي” شبه مطرود، لم تجدد له ولاية ثانية، كما تقضي الأعراف المتبعة مع كل الذين، تولوا منصبه قبله وبعده، بينما حافظ القاتل على صفة “رجل السلام”، كأن المقصود أن تكون هناك مسرحية ما، يصدقها الجمهور بطول الإلحاح؛ لاصطناع أبطال مزيفين، أو إدخال القتلة في دائرة الأبطال.

نفس المجزرة تتكرر الآن، بصورة مضاعفة آلاف المرات، دون مسوح بطولة، أو ادعاءات سلام.

وبنفس المنطق، دعت وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى إقالة أمين عام الأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش”؛ لمجرد أنه أرجع ما حدث في السابع من أكتوبر إلى الاحتلال الذي يعاني منه قطاع غزة، منذ احتلاله عام (1967)، ودعواته المتكررة؛ لاحترام القانون الدولي الإنساني.

أرادت إسرائيل، أن تؤكد، أنها دولة فوق القانون، وأن بوسعها أن تزيح “جوتيريش” عن منصبه كما أزاحت “بطرس غالي”.

الفارق الجوهري بين “شيمون بيريز”، ورئيس الوزراء الحالي “بنيامين نتنياهو”، أن الأول، راوغ باسم السلام.. والثاني، لا يعرف غير “سلام القوة”.

“بنيامين نتنياهو” بحكومته وتوجهاته النسخة الإسرائيلية اليمينية الأكثر عنصرية ونازية، غير أنه لا يمكن مقارنة درجة كفاءته ومقبوليته الدولية برجل مثل “شيمون بيريز”.

“نتانياهو” تنقصه بفداحة الأفكار والتصورات والقدرة على المبادرة، والمناورة وسمعته الشخصية تحت مستوى الشبهات.

أنه الممثل الحقيقي للنازيين الجدد، يرتكب أبشع الجرائم ضد الإنسانية، دون أن يخطر بباله، أن ذلك قد يعرضه للمساءلة الجنائية، فهو تحت حماية الولايات المتحدة الأمريكية، التي وفرت الدعم الكامل السياسي والإعلامي والعسكري والاستخباراتي؛ لكي يمارس أبشع أنواع النازية، كأن غزة تحولت إلى غرفة غاز كبيرة، يختنق فيها الفلسطينيون.

بقوة الحقائق، إسرائيل دولة وظيفية لا تقدر على أن تحيا دون كفالة قوة عظمى، بريطانيا في البداية ثم الولايات المتحدة.

“بيريز” طلب حلا للمشكلة الديموجرافية المتفاقمة التي تهدد مستقبل الدولة العبرية، عمل على الفصل بين المسارين السياسي والاقتصادي، لصالح تمكين الدولة العبرية من الاندماج في الإقليم، دون أثمان سياسية باهظة، فيما سعي “نتنياهو” إلى ما أسماه “سلام القوة”، أو “السلام مقابل السلام”، كل شيء مقابل لا شيء.

إنها نفس السياسة العنصرية، أحدهما عبر عنها بالمناورة الواسعة والآخر بالاستهتار الفادح، الذي ألحق بالجيش الإسرائيلي، واستخباراته هزيمة مذلة في السابع من أكتوبر.

بالإلحاح كان هناك من يريد في إسرائيل والعالم، أن يقدم “بيريز” كرجل “سلام بلا أرض”، بحسب وصف المفكر الفلسطيني الراحل “إدوارد سعيد” لاتفاقية أوسلو.

وبالعجز، كان هناك من هو مستعد في العالم العربي، أن يصدق همسات السلام دون فحص، أو أن مخالب الصقور باتت أجنحة حمام، فالقضية الفلسطينية عبء عليه، يود التخلص منها عند أول منعطف باسم سلام مراوغ لا يأتي أبدًا.

باليقين فإن “بيريز” أخطر شخصية إسرائيلية من جيل مؤسسي الدولة، ارتبط بزعيمها “ديفيد بن جوريون”، وهو مثله مزيج من العنف والمخاتلة، عمل على إزالة شعب بأكمله من فوق أرضه بجرائم ضد الإنسانية، ثابتة وموثقة، وأشرف على بناء مفاعل “ديمونة” الذري، وخطط للحرب على مصر عام (١٩٥٦) مع البريطانيين والفرنسيين، بعد أن أممت قناة السويس، فضلا عن أنه أول من أطلق الاستيطان على الأراضي الفلسطينية المحتلة.

من مفارقات التواريخ على أجندة الزمن، أنه غادر الدنيا في (٢٨) سبتمبر، نفس يوم رحيل “جمال عبد الناصر” قبل (٤٦) سنة.

لم تخف إسرائيل ابتهاجها برحيل عدوها الأول، ولم تكن مستعدة لأي رياء أمام العالم، بينما سؤال “شيمون بيريز” يبدو كاندهاش من مجرد الصمت العربي.

في المشهد تجلت ثلاثة خطوط حمراء، أوصلتنا إلى النقطة، التي سأل فيها الإعلام الإسرائيلي مستغربا عن سر الصمت العربي.

الأول، ألا يكون هناك “عبد الناصر” جديدا في العالم العربى، وما زالت خطوط ما بعد أكتوبر لها الغلبة في السياسات المعتمدة.

الثاني، إن أكتوبر “آخر الحروب”، ولم يكن ذلك الخط من صياغة الرئيس “أنور السادات” بقدر ما كان طلبًا لا يرد من الولايات المتحدة راعية المعاهدة المصرية الإسرائيلية.

والثالث، ألا يسمح لمصر بثقلها الجغرافي والتاريخي والسكاني أن تسقط، ولا أن تنهض.

في سقوطها خطر لا يحتمل على الاستراتيجيات، والمصالح الدولية وفي نهوضها قوة يصعب تحمل أدوارها القيادية في حسابات الإقليم.

التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي يميل تقليديا إلى ارتكاب المجازر البشعة؛ لإرهاب الطرف الآخر في الصراع، دون أدنى اعتبار لقانون دولي إنساني، أو اتفاقيات دولية سارية.

هكذا بث فيلما على شاشات التلفزيون الإسرائيلي في (25) فبراير (2007) عن مجزرة، راح ضحيتها نحو (250) أسيرا مصريا على أرض سيناء في يونيو (1967)، كشف أسرارها الدموية، ومجرمي الحرب فيها.

لم تكن القصة التي سجلها الفيلم الوثائقي الإسرائيلي جديدة تمامًا، فقد كانت لدى السلطات المصرية عام (1968) معلومات أولية عن تلك المجزرة.

أبلغت مصر “الصليب الأحمر”، بما لديها من معلومات، والقصة كلها موثقة في السجلات العسكرية، وأشرف على متابعتها في ذلك الوقت الفريق أول “محمد فوزي”، وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة.

مجازر غزة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، لكنها الأعنف والأكثر شراسة، وانتهاكا لأية قيمة إنسانية، ووقائعها تجري أمام الكاميرات، دون خشية حساب.