لا أشك لحظة واحدة، في أن الرئيس عبد الفتاح السيسي رفض- من جديد وبقوة- أي احتمال، لعملية تهجير جماعي للفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر، وذلك في المحادثات الهاتفية الأخيرة بينه، وبين الرئيس الأمريكي جو بايدن، كما صرح بذلك المتحدث باسم الرئاسة المصرية، لكني لاحظت، أن بيان البيت الأبيض الصادر صباح الاثنين الماضي، لم يتطرق إلى هذه النقطة بالذات، أو لم يبرزها بما فيه الكفاية، مكتفيا بالقول، إن محادثات بايدن، والسيسي، تركزت على ترتيب قوافل الإغاثة، والممرات الإنسانية، وضمانات عدم توسيع نطاق الحرب، بانخراط أطراف أخرى فيها.

في ذات الوقت، تقدم البيت الأبيض إلى الكونجرس، بطلب تخصيص أكثر من 3 مليارات دولار؛ لتمويل عمليات(هجرة ولجوء  محتملين في كل من أوكرانيا، والشرق الأوسط)، مما يعني، أن الترحيل الجماعي للفلسطينيين هو أحد البدائل المقبولة، أو على الأقل المطروحة في الأجندة الأمريكية، وإذن فإن ملاحظتي على صياغة بيان البيت الأبيض، تظهر حاجة الدبلوماسية المصرية الملحة إلى بناء إجماع إقليمي، ودولي على رفض، وإحباط أية خطط؛ لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم إلى الدول المجاورة، مهما تكن الذرائع والأسباب، فلا أحد في هذا العالم من السذاجة بحيث يعتقد، أن أي ترحيل جماعي للفلسطينيين ليس جزءا من مشروع (الترانسفير )، العزيز جدا على قلب اليمين القومي، والديني الحاكم حاليا في إسرائيل، أي إخلاء الأرض المحتلة من أكبر عدد ممكن من سكانها؛ ليسهل ضمها رسميا لإسرائيل (الكبرى!).

نعرف أن الإجماع منعقد داخل مصر على رفض ترحيل  أي من سكان غزة إليها، وعلى رفض فكرة الوطن البديل للفلسطينيين على حساب مصر، و هذا موقف راسخ، منذ أن واجه به الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن عام ٢٠٠٣، لكن هذا الإجماع الوطني داخل مصر يحتاج إلى تطويره إلى إجماع عربي، وإقليمي، ودولي؛ ليصبح أحد المعطيات أو الركائز في سياسات كل الاطراف المعنية مباشرة، أو بصفة غير مباشرة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

بناء الإجماع المطلوب على كل  المستويات سابقة الذكر، يتطلب حملة دبلوماسية وإعلامية نشطة، ومتواصلة، بحيث يكون (رفض الترانسفير) في صدارة أي بحث، أو اتصال دبلوماسي مصري رسمي، وشعبي مع العالم الخارجي، سواء على المستوى الثنائي، أو الجماعي، وأن يتضمن كل بيان مشترك، يصدر عن هذه المحافل نصا صريحا بتأييد الموقف المصري الرافض؛ للترحيل الجماعي القسري، كحل للمشكلة الفلسطينية، مع التأكيد دوما على مبدأ حل الدولتين.

وبالتأكيد فإن الدبلوماسية المصرية ليست غافلة عن ضرورة بناء هذا الإجماع على المستوى الإقليمي، عربيا وإفريقيا وإسلاميًا، ولتكن البداية من اجتماع طارئ للمجلس الوزاري لجامعة الدول العربية، يؤكد بيانه الختامي رفض، وإدانة الترانسفير، ثم يعقب هذه الخطوة اجتماع، وبيان مماثلان من منظمة المؤتمر الاسلامي، ثم الاتحاد الإفريقي، على أن تذهب مصر بهذا كله إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن؛ لاستصدار قرار  برفض، وإدانة التهجير  القسري؛ من أجل تصفية القضية الفلسطينية، ثم يتبع ذلك، أو يتوازي معه، حشد التأييد من المجلس الأممي لحقوق الانسان، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، وبالطبع لا بد، أن يسبق هذا اتصالات تمهيدية عالية المستوى مع الاتحاد الأوروبي، ودول أمريكا اللاتينية، فضلا عن التنسيق مع  السعودية، والإمارات، وقطر وتركيا على وجه الخصوص، ثم مع روسيا والصين، مضافا إلى كل ذلك تعبئة المنظمات الأهلية، ذات الوزن العالمي مثل، هيومان رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية، ومراكز البحث والفكر في أنحاء العالم، ومخاطبة الرأي العام العالمي بشتى الوسائل.

إن هذه المبادرات المقترحة؛ لتعزيز الموقف المصري الرافض؛ لحل مشكلات الاحتلال الاسرائيلي على حساب الجيران، وعلى حساب الشعب الواقع تحت هذا الاحتلال، يستند إلى قاعدة صلبة من الناحيتين القانونية والسياسية، فكل مبادئ ومقررات الشرعية الدولية، ترفض تهجير السكان قسرا، وترفض انتهاك سيادة الدول، كذلك فان الاتفاقيات الثنائية بين كل من مصر وإسرائيل، والأردن وإسرائيل تنص على الاحترام المتبادل للسيادة والحدود.

أما من الناحية السياسية، فإن تصدير المشكلة الفلسطينية إلى الدول المجاورة، لن يحقق أمنا، أو سلاما لأية دولة في الإقليم، وفي مقدمتها إسرائيل نفسها، ولو كان ذلك ممكنا في المستقبل، لأمكن تحقيقه في الماضي الحافل بالمقاومة، والحروب والنيران والدماء.

لكن المنظور السياسي يتضمن  أيضا الأخذ في الحسبان القدرات العسكرية للدول، وفي هذه النقطة، فإن مصر على درجة لا يستهان بها من القوة، والاستعداد؛ لإحباط أية مشروعات تمسها، أو تنتقص من سيادتها على قرارها.

كذلك تدخل الأحوال الاقتصادية السيئة في الدول المعنية في هذه الحسابات، باعتبارها نقاط ضعف، يمكن التركيز عليها للابتزاز أو الغواية، وطبعا فإن أزمة المديونية، والقلق من المستقبل القريب قبل البعيد على مستويات المعيشة، والسلام الاجتماعي في مصر، وكذلك العلاقات الحيوية مع مؤسسات التمويل الدولية، ليست مما يساعد الدبلوماسية في موقف حرج كهذا، لكن لنأمل، أن تكون الأولوية لعناصر القوة التي ذكرناها قبل هذه الفقرة في حسابات صانع القرار المصري.