قبل عدة أيام ظهر الفنان محمد سلام في فيديو معلناً اعتذاره عن المشاركة في واحدة من مسرحيات موسم الرياض؛ بسبب الأوضاع العصيبة التي يمر بها سكان غزة، وأضاف أنه توقع من الرياض إلغاء الاحتفالات.

عقب نشر المقطع هوجم سلام بضراوة من الإعلاميين الذين تربطهم علاقات بالسعودية، وكان أبرزهم عمرو أديب الذي قال، إن لا أحد بإمكانه المزايدة، على ما أطلق عليه “جهود الأمير محمد بن سلمان” خلال الأزمة. بينما وصف تركي آل الشيخ منتقدي السعودية بالتافهين.

موسم الرياض لم يكن الاحتفال الوحيد الذي احتضنته السعودية بالتزامن مع  استمرار نزيف الدماء في قطاع غزة. فقد استضافت أيضا أسبوع الموضة لأول مرة، ومؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار الذي تم افتتاحه بعروض راقصة.

تصريحات تركي آل الشيخ، والإصرار على استمرار الاحتفالات، لا يمكن رؤيتها بمعزل عن السياق السياسي، والاقتصادي الجديد في السعودية، والخليج بشكل عام، حيث تعكس هذه  الممارسات الرؤى، والسياسات الجديدة لحكام الخليج، نحو الأزمات الخارجية بشكل عام، وفلسطين بشكل خاص.

الاقتصاد الخليجي أولا

من بين الأحداث التي أقامتها السعودية، يظل الحدث الأبرز هو مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار، حيث اجتمع المسئولون السعوديون مع مجموعة من أهم الرؤساء التنفيذيين، ومسئولي المؤسسات المالية، والبنوك حول العالم في الرياض. ورغم احتدام الأحداث في غزة، غابت الأزمة عن الكلمات الافتتاحية، فعقب انتهاء  عرض الافتتاح الراقص، توالت خطابات الحاضرين في مدح جهود “بن سلمان”، واستشراف المستقبل المشرق للاستثمار في المملكة، ربما ظهرت إشارة وحيدة عابرة- وكانت غامضة وعامة للغاية- في خطاب محافظ صندوق الاستثمارات العامة السعودي الذي قال، إنه يقدر مجئ الحاضرين رغم “الأوقات الصعبة التي نراها في أماكن مختلفة حول العالم.”

الأوضاع في غزة، سرعان ما فرضت نفسها على المؤتمر عقب انتهاء المراسم الاحتفالية، أبرز التصريحات كانت لوزير المالية السعودي الذي قال، إن بلاده تسعى؛ لتهدئة “الأحداث الأخيرة” مشيراً إلى، أن بلاده لا ترغب، في أن تتعطل الجهود الكثيرة التي بذلت قبل السابع من أكتوبر؛ لتهدئة التوترات في المنطقة، وأضاف أنهم يتعاطفون مع جميع الضحايا المدنيين أيا كانوا، كما أكد على أهمية احترام القانون الدولي.

استخدام المسئولون في الرياض تلك اللغة المحايدة، ومحاولة تجاهل غزة في المؤتمر له عدة أسباب ودلالات، فرغم أن السعودية أصدرت بيانات رسمية، تدين إسرائيل، ولكن المؤتمر كشف، أن خطاب الرياض يتحول بشكل جذري في حضور الأموال والاستثمارات.

أولوية السعودية الآن، هي جذب الاستثمارات وتحقيق رؤية 2030. ولهذا ترى، أن استخدام خطاب مسيس- قد يحتوي على إدانة لإسرائيل، أو دعم فصائل فلسطينية مسلحة- في مثل هذا المؤتمر، قد تكون له عواقب سلبية على مستقبل الاستثمار في الرياض.

الإمارات من جانبها، ومنذ بداية الحرب، أكدت أن مستقبل العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل، لن يتأثر، بما يحدث بغزة. وهو ما عبر عنه وزير التجارة الإماراتي، بأنهم “لا يخلطون بين التجارة والسياسة”.

الإمارات مثلها مثل السعودية، تضع تحقيق رؤيتها الاقتصادية؛ لتنويع الاقتصاد القومي أولوية لسياساتها، ولن تجعل ما يحدث في غزة، يؤثر على علاقتها مع إسرائيل في المجالات الاقتصادية والتجارية والعسكرية.

فلسطين ليست قضية الخليج

في الأيام الأخيرة ظهر على منصة إكس (تويتر سابقا) هاشتاج بعنوان “فلسطين ليست قضيتي”، ويبدو أن مصدره هو السعودية. وتحت هذا الهاشتاج، غرد مستخدمون من  السعودية، بأنهم لا تعنيهم القضية الفلسطينية، مروجين أكاذيب كلاسيكية؛ لتشويهها مثل، أن الفلسطينيين “باعوا أرضهم”.

الهاشتاج نفسه ظهر سابقا في عام 2020 ،وكان مصدره السعودية أيضا، واشتبه البعض وقتها في ضلوع نشطاء من إسرائيل في تلك الحملة.

وقال سعوديون لنيويوك تايمز، إنهم يتحدثون عن حرب غزة سرا في منازلهم خوفا من السلطة، بسبب عدم وضوح خطوطها  الحمراء؛ بشأن فلسطين. هذا الخوف- كما يشير التقرير- يأتي بالتزامن مع واقعة نشر فريق الهلال السعودي صورة على منصة إكس، تعبر عن دعم غزة (أحد لاعبيه مرتديا الكوفية الفلسطينية)، سرعان ما تم حذفها. وواجه الصحفيون الرياضيون الذين أعادوا نشر الصورة هجوماً من حسابات مؤيدة للسلطات السعودية، اتهمتهم بالانحياز العاطفي؛ لدعاية تروجها جماعة متطرفة، تشكل خطرا على السعودية (يقصدون حماس). وفي النهاية، اضطر الصحفيون للاعتذار عن خلط السياسة بالرياضة.

تلك الوقائع تعبر عن المنحى الذي اتخذه بن سلمان في السعودية- و”بن زايد” في الإمارات- لبناء هوية قومية جديدة (من خلال الاحتفالات، والمشاريع القومية؛ لتعزيز نظام الحكم، وتحقيق الرؤى الاقتصادية الجديدة لعالم ما بعد النفط). بناء تلك الهوية يضع المصلحة الوطنية في الدرجة الأولى مع تنحية القضايا التي كان ينظر إليها كقضايا عربية مشتركة، والتي لا مكان لها الآن في قائمة أولويات السعودية والإمارات، ويشمل هذا إبعاد القضية الفلسطينية عن مركز الاهتمام.

نجح حكام الإمارات والسعودية، ودول خليجية أخرى في إبعاد قضية فلسطين عن الجدالات الشعبية في بلادهم. فاتفاقات إبراهام في الإمارات، قوبلت بترحيب شعبي، وبلا معارضة تذكر. ولكن الوضع في السعودية يظل مختلفا حتى الآن، فرغم أن حكام السعودية يغرسون، أو يحاولون غرس هوية قومية سعودية جديدة في شعبهم، ولكن لا يزال من الصعب طمس فلسطين، والعداء لإسرائيل في المجتمع السعودي بشكل كامل.

يشير استطلاع أجراه معهد واشنطن، إلى أن 40 % من السعوديين يقبلون ببعض التعاون مع إسرائيل ، لكن 20 % فقط يرون، أن اتفاقات إبراهام لها آثار إيجابية. هذه المعارضة الشعبية، تعد من الأسباب التي تجعل الرياض حذرة في استكمال مسار التطبيع.

إزاحة القضية الفلسطينية من المركز لها أبعاد أخرى مهمة لدول الخليج  التي تريد وضع قضاياها  على رأس أولويات السياسة الإقليمية. على حساب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي كان القضية الملحة والحاضرة دائما في السياسة الإقليمية، وتراجع في العقد الأخير؛ لصالح صعود قضايا مثل؛ الصراع مع إيران والحوثيين، واتفاقات إبراهام وغيرها.

الأمر الذي يجعل عودة القضية الفلسطينية مجددا إلى السجالات الشعبية، والسياسية الإقليمية ليس مستحبا بالنسبة للنخب في السعودية والإمارات. فتصاعد التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية قد يؤدي إلى إضعاف محاولات وضع الأولوية للقضايا الوطنية، إضافة إلى إضعاف شرعية حكام الخليج؛ بسبب تقاربهم مع إسرائيل. كما أن تصاعد الغضب الشعبي في البلدان المجاورة قد يتطور لتظاهرات، وغضب يهدد استمرار الأنظمة الحليفة للخليج.

وأخيرا، فإن التفات القوى الإقليمية والدولية لقضية فلسطين مجددا، قد يعيد تحويل وجهة السياسة الإقليمية من التركيز على قضايا الخليج إلى فلسطين.

الرؤية الجديدة

بالعودة إلى منشور تركي آل الشيخ الذي وصف فيه مهاجمي الرياض بالتافهين، نجده يرد على المطالبات بإيقاف الاحتفالات في الرياض: “احتلت دول، لم يتوقف أي شيء، وعند حرب لبنان لم يتوقف أي شيء، وعندما حاربت بلدي 7 سنوات، لم يتوقف فيها شيء، ودم السعودي أغلى لدي من أي شيء.”

عبارات تركي آل الشيخ تبلور الرؤية الجديدة للنخب الخليجية، والقيم الجديدة التي يريدونها، أن تسود في مجتماعتهم. يرى تركي، بأن الحياة في السعودية يجب أن تستمر، فحدوث أزمة خارجية في غزة- حتى في ظل تلك الأزمة الإنسانية التي تجاوز ضحاياها الـ 9000 شهيد – ليست بالأهمية الكافية؛ لوقف المسار الذي تسير فيه السعودية.

تأكيد تركي أن “دم السعودي” أغلى عنده من أي شيء، يعكس النبرة القومية للسعودية الجديدة، ويمثل قطيعة مع السعودية القديمة التي كانت تعظم من أهمية الهوية الدينية. وهو ما يساهم في التقليل من شأن، أو أهمية القضية الفلسطينية في المجتمع السعودي الجديد.

هذا لا يعني، أن حكام الخليج يسعون؛ لتجاهل غزة والقضية الفلسطينية في سياساتهم. فلكي تختفي القضية للأبد، يجب أن يجدوا لها حلا. كما أوضحت الحرب في غزة أن انفجار الأحداث في فلسطين، يؤدي إلى إعاقة خططهم ورؤيتهم. فالصراع في غزة لا يؤثر سلبا فقط على مصالحهم الاقتصادية، بل يشتت الجميع – شعوبا وحكومات- عن القضايا، والمشكلات التي يراها الخليج أولوية، ويريد تسليط الضوء عليها.