تحدث السيد حسن نصر الله أخيرًا. حديثا مُطولا، لم ينطوِ إلا على رسالةٍ “خاصة” واحدةٍ فقط، وسط مضامين مُحبِطَة لمريديه، والحالمين بتكرار نموذج أسطورته في يونيو 2006، وإن حاول تغطية تلك الإحباطات بخطابٍ شعبوي عَالي النبرة. لم أكن أتوقع، كما فعل كثيرٌ من المُتابعين، أن يأتي حديث السيد نصر الله، بما يشفي الصدور في موضوع غزة، وفقًا لتصوراتٍ تحكمها انفعالات اللحظة حتى، وإن كانت مدفوعة بحماية الحق التاريخي الفلسطيني الذى لا يجرؤ وطني على نكرانه.

لم يكن لتوقعي أي علاقة بتقييمي لموقفه من الثورة اللبنانية في أكتوبر 2019، والذي آل إلى إجهاضها، وترسيخ دولة الطائفية، ما وصل بالبعض لأن يطالب- يائسًا- بإنشاء دولة كونفيدرالية بلبنان، كما لم يكن لتوقعي أى علاقة بتقييمي لموقفه، وتدخله بالصراع في سورية. كان توقعي مبنيًا بالأساس على طبيعة العلاقة التي تربط حزبه بالجمهورية الإيرانية؛ لأسباب طائفية، لم ينكرها هو ذاته، بل جاهَرَ بها في يوم من الأيام بصراحة، أثبتتها الأحداث المُتتالية، ثم عاد فأكدها في حديثه عصر الجمعة الماضية.

لم أتوقع أبدًا، أن يعلن السيد نصر الله دخوله الصريح على خط المعارك العسكرية، مُنضَمًا إلى المقاومة المشروعة في فلسطين المحتلة بِحُكم حسابات الواقع التى تمليها طبيعة الصراع الجيوسياسية، فكلا الطرفين، حزب الله والدولة الصهيونية، يريد استدراج الآخر إلى مَلعَبه الذي يعرفه عن ظهر قلب. حزب الله يمارس نوعًا من المناوشات، أو “جَر الشَكَل” حسب التعبير العامي، ولا يريد الدخول في معركة مفتوحة على أرضٍ أخرى، ستُكلِفَه الكثير من الخسائر، فيما يحوزه من أسلحة، حَرِص على أن يخفيها، بالإضافة إلى أنه لو فعلها، فسيفتح أبواب الجحيم على نفسه، وعلى لبنان وعلى المنطقة كلها في ظل وجود حاملتي الطائرات الأمريكيتين على بُعد كيلومترات من شواطئ لبنان في المتوسط، حتى وإن حَلّتَا على سبيل الردع. أما إن نجح بمناوشاته، في استفزازه للدولة الصهيونية باستدراجها؛ لشَن حرب ولو خاطفة، فسيكون في موقف المُدافِع عن أرضه، ولهذا الأمر شأن آخر. على الجهة المُقابلة، فالدولة الصهيونية، لا تريد أن تفتح على نفسها جبهة أخرى، فتقع في مستنقعٍ، لا تحتمله بتوسيع نطاق العمليات العسكرية، حتى لا تفقد ذريعةً تُرَوجها كّذِبًا بخصوص الدفاع عن نفسها، وحتى لا تُضَحي بالكثير من قوتها البشرية، وتُشَتِتُ تركيزها بالاستمرار في تدمير غزة.

لأجل هذا، لم أُصدَم بحديثه، ولم انضم لقافلة الحالمين الذين أصابهم الإحباط فقالوا: “ليته ما تكلم”، بل على العكس تمامًا، فقد أفصح الرجل عن الرسالة “الخاصة” التي يتوجب النظر بها في إطار المشروعات الأقليمية المتعددة للنزاع بالمنطقة. كانت الرسالة “الخاصة”، والأهم في حديث السيد نصر الله، تتمثل من وجهة نظري، في إشادته بمشاركة بعض القوى العراقية، واليمنية فى معركة غزة. ورغم أن تلك المشاركات، التي ذكرتني، بما فعله صدام حسين إبان حرب الخليج الثانية، عندما كان يطلق بعضًا من صواريخ سكود على الدولة الصهيونية، كانت مشاركات محدودة بلا صدىً موجِع، يغير فعليًا في ميزان المعارك العسكرية، إلا أنها أكدت، أن إيران بِحُكم ما تملكه من تأثير على تلك القوى، تسعى لإثبات، أنها المُحَرِك الأساسي وصاحبة القرار التى تحدد نوعية تلك المشاركات، وعُمق تأثيرها بما يحقق مصالحها. لم تكن تلك المشاركات التى أشاد بها السيد نصر الله، سوى غطاء عسكريًا ضئيل الأثر على سبيل الإنذار، لما يمكن لإيران، أن تفعله بالمنطقة، وقد انفتحت على كل الاحتمالات، في ترجمة عملية لما صرح به وزير خارجيتها السيد عبد اللهيان حين قال، إن الأصابع كلها على الزناد. ولعل تريث إيران في استخدام قوى أخرى قريبة جغرافيًا من مسرح العمليات، لا تريد استهلاكها جميعها الآن، إلا مما تستدعيه أهدافها من مناوشات، ليس سوى تأكيد لذلك.

كانت المنطقة العربية قد وقعت أسيرةً؛ لنزاعِ ثلاثة مشروعات إقليمية متناقضة، لكن أساسها واحد وهو التطرف، المُعَزَز بخطاب طائفي زاعِق، المشروع الصهيوني المدعوم أمريكيًا وأوروبيًا، والمشروع الإيراني بوكلائه في اليمن والعراق ولبنان، والمشروع التركي بتحالفه مع جماعة الإخوان بفروعها الممتدة في المنطقة، وهو المشروع الذى أحبطته مصر فقضت على أحلامه قضاءً مُبرمًا إلى غير رجعة.

إذن، لم يكن هناك من مشروعات إقليمية صبيحة السابع من أكتوبر، سوى المشروعين الصهيوني والإيراني، في ظل غياب شِبه كامل لمشروع عربي، يطرح حلولًا مختلفة للسلام والعدل، وحقوق الإنسان بأدوات حداثية وسط عالمٍ محتقن، يقف بأصابع قدميه على صفيحٍ ساخن بين أزمات طاحنة في الغذاء والمناخ والطاقة، فكانت اندلاعة الشرارة في السابع من أكتوبر، تعبيرًا حقيقيًا وأصيلًا عن حالة انسداد الأفق التي وصلت إليها المنطقة العربية.

لم يكن هناك أمام الشعب الفلسطيني الجبار في ضوء ذلك الانسداد التاريخي، سوى المقاومة، حيث تساوى لديه الموت والحياة، بعدما تقطعت الأوصال بين غزة والضفة الغربية لنهر الأردن، وتقزمت السلطة الفلسطينية، فقنعت بدورٍ بائس، لا تمتلك فيه من أمرها شيئًا، وصارت الدولة الصهيونية المتطرفة المجنونة، تفعل ما تريد، دون ضوابط من أي نوعٍ أمام مُجتمعٍ دولىٍ مُمتَثِل.

هناك مَثلٌ شعبيٌ شاميٌ يقول: “إن مَا كِبرِت، مَا بتصغَر”، وكان هذا هو ما حدث بالضبط. اندلعت أعمال المُقاومة المشروعة، فاهتزت الأرض، وانفتحت بوابة الجحيم؛ لتعود للملف الفلسطيني أولويته المُستحقة، لا بصفته ملفًا مَيّتًا لنقاشات الصعبانيات التاريخية التي تفضي دومًا إلى اللا شيء، لكن بصفته ملفًا حَيًا لشعبٍ حَيٍ، لن يموت، يطالب بحقوق مشروعة في الحياة بعيدًا عن استقطابات المشروعات الإقليمية، ولتدرك الدولة الصهيونية، أن مشروعها المتطرف المجنون بأكمله قد صار على المحك.

أيًا كان الثمن، ستستمر الحياة، بعدما تضع الحرب الصهيونية المجنونة أوزارها، وسيعيد الفلسطينيون إعمار بلادهم، وسيستمرون في الحياة بأجيالٍ جديدة، ستحمل مراراتٍ مُضنيةٍ، تؤرق العالَم، إن لم يدرك المجتمع الدولي، أن مُعادلاتٍ جديدة قد ترسخت على أرض الواقع، أهمها أن مرحلة أوسلو بكل ممارساتها، وبِناها التحتية والفوقية، قد تجاوزها الزمن، فانتهت إلى غير رجعة، وأنه لم يعد أمام الدولة الصهيونية، إلا أن تنخرط في عملية سلام حقيقي، يرضاه المُقاومون من أهل الأرض الأصليين الذين لن تفلح محاولات نتنياهو، وعصابته في تحويلهم لهنود حُمر جدد. إن وضعًا سياسيًا جديدًا لا بد له من التجلي، وإلا فإن ضمانًا لعدم تكرار أحداث مُهِلكَة من قبيل زلزال 7 أكتوبر، سيكون محل شكٍ عظيم.