تعيش مصر اليوم أجواء غير طبيعية؛ بسبب حرب غزة، وقد صادفت تلك الحرب البربرية على صعيد الداخل المصري، انعقاد انتخابات رئاسية. من هنا يبدو المشهد غريبًا، وغير مألوف، وإن كان متأزمًا، بين صانع القرار والمواطن المصري، وهذا الأخير ما فتئ، ينظر لذاته باعتباره أكثر شعوب العالم كراهة لإسرائيل، بسبب ميراث الظلم الذي وقع على مصر؛ جراء الممارسات البربرية لهذا الكيان، منذ تأسيسه وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم181 في نوفمبر1947.

ولعل واحد من الأمور التي تؤثر على المشهد المرعب في الخارج، وتداعياته على الداخل المصري، هي الخشية من الميراث الثقيل لنظام الحكم في مصر، القائل منذ عقود خلت، إبان الحروب المصرية الإسرائيلية المتتابعة، أنه “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، وهي دعوة كانت تدعو عمليًا إلى إخراس الأصوات، وكبت الحريات، ووقف الممارسات الداعية إلى حرية الرأي والتعبير، وكلها أمور كانت عليها ملاحظات كثيرة مصريا قبل العدوان الصهيوني. كما أن الملفت للنظر، أن العدو نفسه، لم يقوض حرية مواطنيه في أي حرب، باستثناء بعض الأمور المتصلة بالتمييز العرقي في جميع الأوقات والمناحي.

واحد من الأمور الرئيسة لأثر حرب غزة على التفاعل بين أركان الداخل، هو ما اتصل بالسلطتين التشريعية والقضائية. فالأولى، ومن خلال مجلس النواب، تم شحذ وتعبئة النواب؛ كي يكون المجلس عونًا للسلطة في مواجهة العدوان، وذلك من خلال الكلمات، وإصدار البيانات الموجهة للداخل والخارج في آن واحد.

أما القضاء، فكان أبرز المشكلات التي تعامل معها بشأن حرب غزة، قد تمثلت في حبس متظاهرين معارضين؛ للحرب على غزة، منتمون لعدة محافظات احتياطيا من قبل النيابة العامة، وعدم الإفراج عن العديد منهم، بعد أن وجهت لهم النيابة التهمة المعيبة والمعتادة والزائفة، وهي “الانضمام لجماعة إرهابية”. وقد جاء ذلك عقب ترديد المتظاهرين لشعارات، تعبر عن رفض غير مباشر لسياسات الرئيس السيسي؛ بسبب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها البلاد. وفي ذات السياق، تداول المتعاملون مع شبكات التواصل الاجتماعي مقطع فيديو، لقاض وهو على رأس أحد محاكم الاستئناف يوم 19 اكتوبر 2023، أعلن عند بدء الجلسة رفضه لأحداث غزة، وألقى متطوعًا بيانًا ناريًا باسم القضاة والمحامين، وذكر أن القضاة هنا والمحامين، بل والمتهمين يدعمون الرئيس السيسي، فيما يتخذه من قرار لمواجهة إسرائيل، وأنهم يشاركون في هذا القرار، حتى لو كان قتال العدو عسكريا.

أما على الصعيد الشعبي والمجتمعي، فقد كان أبرز ما لوحظ على سلوك التفاعل بين الحاكم والمحكوم؛ بشأن أثر حرب غزة، هو مظاهرات 20 أكتوبرالماضي، التي دعا إليها الرئيس السيسي يوم 18 أكتوبر، وحددت السلطة لها 27 مكانًا في محافظات مصر كلها، يومها خرجت مصر عن بكرة أبيها، لتقول لا للتهجير ولا لتصفية القضية الفلسطينية. يومها أيضًا كان لافتًا، أن صانع القرار الذي طالما أوقف المظاهرات، وجعل قانون التظاهر مجرد حبرًا على ورق، استدعى الناس فورًا؛ لمساندة سياسة مصر الخارجية، ولم يخذل الناس رئيس الدولة في هذا الهدف النبيل الذي اتفق حوله كل المصريين، رغم إغراء إلغاء جزء معتبر من الديون الخارجية كثمن لقبول هذا التهجير من قبل الولايات المتحدة التي تدير آلاتها هذه الحرب البربرية. لكن المهم والملفت، أن هذا الاستدعاء، أعقبه صمت في الشارع، فهو ليس استدعاء مؤقت، وبالأمر المباشر فحسب، بل أن الخارج عن إجراءاته سيكون معرض للمحاسبة، وهو ما حدث في مظاهرة ميدان التحرير ذات اليوم التي قالت: “مظاهرة دعم لفلسطين بجد مش تفويض بحد” وهو بالفعل ليس تفويضا، لأن التفويض سبق، وأن منحه الناخب للمنتخب عام 2018، فهو لا يحتاج تفويضا جديدا، إلا لو كان معنى ذلك، أن التفويض قد سحب أو تقادم!! بالطبع صاحب ذلك حضور الأمن في الميادين وفي الجامعات، خشية اندلاع المظاهرات من جديد، فالجن قد خرج من القمقم، وعلى من حضره أن يصرفه. وعلى أية حال، فقد أدت كافة تلك الأحداث؛ للقبض على العشرات من الأشخاص، لا زالوا قيد الحبس.

المؤكد أن كل ما حدث صحبه دعاية مكثفة، استطاعت السلطة، أن تغذيها بحرفية عالية وكفاءة، وهي أن الغرب الذي يدعي حقوق الإنسان، ويغرس في أذهان الكثيرين، أنه حامل لواء الحرية، هو من يكبت المظاهرات، فلا يسمح بها إلا في أضيق الحدود، وهو الذي يحدد شعاراتها وخطوط سيرها. هذه الرسالة تقول بوضوح: أنا الذي يقال عليه كابت للحريات، أصبحت مع المظاهرات ومدعي الحرية أصبحوا ضدها. وهو بالتأكيد قول أصبح مغلوط، إذ أن المظاهرات أصبحت تجوب شوارع وميادين الولايات الأمريكية والعواصم والمدن الأوروبية عنوة، ولم يعد أحد، يستطع أن يوقفها، أو يوقف ممارسيها، عكس ما يحدث الآن، لدينا من أزرار، تحرك الناس للميادين، وأزرار تسكنهم في بيوتهم، وتمنعهم من الخروج.

وبالانتقال إلى المجتمع المدني، والإعلام وتداعيات الحرب عليهما، نلاحظ بالنسبة إلى المجتمع المدني، أنه تفاعل بإيجابية كبيرة مع عمليات الإغاثة، وكان التبرع هو الشكل الرئيس عبر الهلال الأحمر، أو تحيا مصر أو خلافة. لكن كل دعوات النقابات بتنظيم حشود، تحمل معونات الإغاثة؛ لتسليمها يدً بيد أو إيصالها إلى معبر رفح، لم تلق أي صدى لدى السلطة في مصر.

وبشأن الإعلام، فلم يكن حاله بأفضل من حال المظاهرات، إذ شهد فجأة انفتاحًا كبيرًا، تمثل في نقد كبير، وبأشد الألفاظ على الكيان الصهيوني، والولايات المتحدة وأوروبا. صحيح أن هذا أسلوب النقد كان قائمًا قبل الحرب، لكن الخلاف بعد بدء الحرب كان في حدة الأسلوب، كما كان الخلاف في ارتباطه بحدث ما، وهو ما يلاحظ في نقد الإعلام المصري للإدارة الأمريكية، وأوروبا تعقيبًا على نقدهم لمناخ حقوق الإنسان في مصر، أو ربطهما المساعدات والمنح بتحسن هذا المناخ.

وعلى مستوى فتح المجال العام في البلاد، فلم تتح حرب غزة أي  مناخ توافقي بين مكونات، وأركان السلطة والمعارضة المدنية. بمعنى، أنه كان من المنتظر، أن تنشأ تلك الأزمة روح التعاضد والتآلف بين الطرفين، لكن هذا الأمر لم يحدث، فسجناء الرأي تم إيقاف عملية العفو الرئاسي الدوري عنهم، والمحبوسين احتياطيًا لا جديد بشأنهم، إذا بقوا داخل غيابات السجن على غير سند من الدستور؛ بشأن مدة بقاؤهم. وقوائم الإرهاب للأفراد والكيانات الإرهابية، الصادرة بالقانون 8لسنة 2015 المعدل بالقانون 14 لسنة2020، والذي يعتبر إيقاع عقوبة بلا إدانة، بوضع النيابة العامة للأشخاص والكيانات بقوائم الإرهاب لمدة 3 سنوات، ما لم ترفع المحكمة هؤلاء من تلك القوائم، وهي عقوبة غريبة، تمنع بالنسبة للأشخاص المعنيين بها التعيين في الوظائف، وتنزع عنهم صفة حسن السير والسمعة، وتمنع سفرهم، وتضعهم في قوائم الترقب عند الوصول للبلاد، وترفض منح المغترب منهم أي إمكانية؛ لتجديد السفارات المصرية بالخارج جوازات سفرهم، ومن ثم منح الجنسية لمواليدهم…إلخ.

أما أكثر مظاهر أثر حرب غزة على المشهد في الداخل، فقد تمثلت في بقاء القيود المفروضة على المرشح أحمد الطنطاوي في الحصول على تأييد مؤيديه عبر التوكيلات من الشهر العقاري، وذلك على مسمع ومرآى الهيئة الوطنية “المستقلة” للانتخابات. وتلك التوكيلات كان آخر يوم لها هو 14 أكتوبر2023، أي بعد أسبوع من بدء “طوفان الأقصى”. جدير بالذكر، أن أبرز المضايقات التي تعمدت السلطة القيام بها لمنع التوكيلات للطنطاوي، قد حملت ثلاثة أشكال: الأول، تخصيص نحو ثلث مكاتب الشهر العقاري على مستوى الجمهورية فقط لعمل التوكيلات. الثاني، تذرع موظفي الشهر العقاري بتعطل “السيستم” الإلكتروني؛ لمنع عمل التوكيلات. أما الشكل الثالث، والأبرز والأكثر غرابة، فهو الاعتماد على انتشار عناصر خارجة عن القانون، أو من تطلق عليهم الموالاة بـ “المواطنون الشرفاء”، بمكاتب الشهر العقاري، لمنع الناس من عمل توكيلات للمرشح المقصود. جدير بالذكر، أن المرشح حازم عمر قد نجح في جمع 68 ألف توكيل في 3 أيام وفق قوله، أما الطنطاوي، وهو الشخصية الأبرز والأكثر معرفة في أوساط الناس مقارنة به، فلم يستطع أن يجمع نصف العدد المطلوب والمقدر بـ 25 ألف توكيل طوال فترة عمل التوكيلات التي بدأت يوم 25 سبتمبر2023!!

غاية القول، إن حرب غزة ساهمت في تأزم المواقف الداخلية بين السلطة والمعارضة، أو على الأقل بقاؤها على حالها المتدني، لكن التدني حمل أشكالا جديدة.