ليس غرض هذا المقال مناقشة ما يجري من انتهاكات وفظائع جسيمة، وإبادة جماعية في غزة، وجرائم ضد الإنسانية؛ فهذا مما بات ممارسة منهاجية في السياسة الاسرائيلية، وليس من هدف المقال- أيضا- التعرض للمعايير المزدوجة للحكومات الغربية الداعمة لاسرائيل؛ فقد جرى كثيرا مناقشة تناقض ثنائية المصالح والقيم في سلوك الدول المختلفة.
فما الذي يستهدفه المقال إذن؟
يسعي المقال للتعامل مع كثير من أنقاض قضايا حقوق الإنسان التي تهدمت في منطقتنا بغرض إعادة الإعمار بعد الحرب، وإبراز الاتجاهات المستقبلية التي يمكن أن تأخذها في منطقتنا. لم يعد الأمر يتعلق بتغيير في الآليات فقط؛ وإنما بات يستدعي بناء لمنظور واقتراب جديدين للعمل الحقوقي برمته.
أضيرت قضايا حقوق الإنسان في المنطقة ضررا بالغا من ثلاث زوايا، ولكنها أيضا تمثل في نفس الوقت ثلاث فرص يمكن أن تعطي لها قوة دفع.
أما الضرر فيتأتى من:
١- مزيد من انتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة:
تغطي نيران الحرب في غزة ودخانها الكثيف على اهتمامات الرأي العام والأنظمة، والحكومات الغربية والمنظمات الدولية، كما تخاف الحكومات العربية من انزلاق الأوضاع إلى اضطرابات في الشوارع والميادين بعد موقفها المتخاذل من نصرة الفلسطينيين. تسعي الحكومات إلى احتواء الشارع، لكنها في نفس الوقت ستكون أكثر شراسة وقمعا، وهي إذ تفعل ذلك ستكون في منأى عن أية محاسبة أو رقابة دولية، فالأخيرة لم تعد ذات مصداقية لا في بلدانها ولا على المستوي الدولي.
من المتوقع كما جرى في حقبة سبتمبر (٢٠٠١-٢٠٢١): اضعاف أصوات المدافعين عن الحريات السياسية في العالم العربي- باسم ضرورة الاعتماد على الحكام، لاحتواء الغضب الشعبي “غير العقلاني” من ناحية، ولحماية إسرائيل من الهجمات “الارهابية” أو تهديدات الدول المحيطة لوجودها.
٢- كلنا في هم حقوق الإنسان شرق؛ فلا فرق بين غرب ولا شرق في الانتهاكات.
منعت المظاهرات في بعض الدول الأوربية، وقيدت حرية الرأي والتعبير والحريات الأكاديمية، وعصف بمهنية الإعلام واستقلاله، وحظرت بعض التنظيمات الداعمة للفلسطينيين، وتم السكوت على الجرائم الإسرائيلية مع ابراز انتهاكات حماس فقط.
باتت القواعد الدولية التي تطورت على مدار عقود طويلة في مهب الريح، وعجز التنظيم الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية المتمثل في منظمات الأمم المتحدة عن فرض هدنة إنسانية، وشُلت فاعليته. مجلس الأمن معطل، والجمعية العامة تصدر قرارات غير ملزمة برغم قيمتها الرمزية، ووكالات الأمم المتحدة عاجزة عن تقديم المعونات الإنسانية.
في مصر وغيرها من بلدان المنطقة تحولت قضايا حقوق الإنسان والانتهاكات التي تقوم بها بعض الحكومات إلى اهتمام عند قطاعات جماهيرية تتسع يوما بعد آخر، وقبلت جموع منها الآليات الدولية في هذا النطاق مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، وبيانات الاتحاد الأوربي وبرلمانه، وتصريحات أعضاء الكونجرس. رحب المعنيون بحقوق الإنسان ودوائرهم الشعبية المساندة بضغوط الحكومات على الأنظمة في المنطقة لتغيير سلوكها أو ايقاف انتهاكاتها أو اطلاق سراح بعض معتقلي الرأي فيها، وفي أحيان امتد الأمر إلى رسم حدود للعلاقة بين الدول وفق بعض الحالات -كما في اغتيال الصحفي جمال خاشقجي.
لم تر هذه القطاعات الجماهيرية المهتمة بمسائل حقوق الإنسان بأسًا في هذه الممارسات، ولم تعدها تدخلا في الشؤون الداخلية، ولا اعتداء على مقتضيات السيادة على الرغم من خطاب الأنظمة العربية المضاد الذي لا زال ينظر إليها كذلك.
أظن- والله أعلم- أن هذه القناعات الشعبية ستتراجع إلى حد كبير، وستكون محل تساؤل ومراجعة، وقد يمتد الحديث- كما يظهر في السوشيال ميديا- الآن إلى مدى جدوى الحديث في هذه الموضوعات وقيمته وتأثيره، خاصة أن دوائر الحكم لن تكون بعيدة عن تغذية هذه التصورات؛ فهي تصب في النهاية في صالحها.
وكما كانت القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي- تاريخيا- سبيلا من أنظمة الحكم العربية لمصادرة الديموقراطية حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة؛ فمن المتوقع أن تصادر الحرب على غزة- ولو لحين- قضايا حقوق الإنسان أيضا تحت دعاوى الاصطفاف الوطني وتفويض القيادة، ومواجهة الغرب المتآمر.
في هذا السياق سيكتسب النموذجان الصيني والروسي جاذبية أكبر لدى قطاعات من الجماهير العربية؛ فالأول استطاع أن يحقق التنمية وينتشل شعبه من الفقر، والثاني تجسيد للرجل القوي الذي يبحث عنه المخيال الشعبي العربي، والاثنان معا ضد الغرب- صاحب المعايير المزدوجة والمساند لإسرائيل في عدوانها.
٣- التمويل والحوكمة: وقد بدأت تداعياته بالفعل. أوقفت سويسرا دعم إحدي عشرة مؤسسة فلسطينية وإسرائيلية تعمل من سنوات طويلة في هذا المجال. خطورة الأمر أن هذه المنظمات تساهم في توثيق جرائم الحرب التي تقوم بها إسرائيل.
ليست هذه هي الحالة الوحيدة؛ فقد أوقفت الحكومة الألمانية تمويل بعض مشاريعها في مصر، كما بادرت إحدى المؤسسات المصرية بإيقاف عملها مع الحكومة الألمانية لموقفها الداعم من إسرائيل.
يرى أحد المختصين في قضايا حقوق الإنسان بمصر أن نقص التمويل قد يساعد على استعادة التطوع الذي افتقده العمل الحقوقي على مدار ربع القرن الأخير؛ فقد بدأ في الثمانينيات من القرن الماضي عملا تطوعيا، وانتهى إلى أن يكون محترفا خالصا. لا أدري إن كان هذا التوجه سيسود مستقبلا أم لا في ظل ضغوط الحياة على الناشطين وتعقد قضايا العمل وما تتطلبه من تفرغ؟
كانت الشراكة بين دول الاتحاد الأوربي وبين منظمات المجتمع المدني في المنطقة من قواعد الحوكمة التي رسمت العلاقة بينهما. فوجئت المنظمات بمواقف الاتحاد الأوربي والحكومات الغربية بلا تشاور أو استماع لوجهات نظرها. اصدرت ١٨١ منظمة وائتلاف عربي بيانا أكدوا فيه على موقفهم الداعم لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ونيل حريته، والمقاومة المشروعة للمحتل بما فيها الكفاح المسلح، واعتبار العدوان الإسرائيلي على غزة تهديدا للأمن والسلم الدوليين.
أظن أن هذا البيان سيكون له تداعيات على الشراكة بين هذه المنظمات ودول الشمال. من المتوقع تصاعد للتصدعات في تحالف الحكومات الغربية مع أنصار حقوق الإنسان العرب نتيجة امتناع الأخيرين عن إدانة حماس.
الفرص والإمكانيات
الفرص لن يتم اقتناصها إلا من خلال تغيير في النماذج المعرفية، والآليات العملية، مع امتلاك قدرات تحليلية جديدة تضاف إلى ما تحقق في حركة حقوق الإنسان على مدار العقود الماضية، وهو ما يستدعي مراجعة وحوارا بين أصحاب المصلحة في هذا النطاق.
١- من الشعوب إلى الشعوب وليس فقط من المنظمات للحكومات:
تركزت نظرية التغيير لدى أكثر المنظمات الحقوقية العربية على الضغط على الحكومات العربية من خلال التعامل مع الحكومات والبرلمانات الغربية بما تملكه من إمكانيات وما توفره من معونات وقروض، وبما تمثله قضايا حقوق الإنسان والتحول الديموقراطي من أولويات تحكم سياستها الدولية.
في هذه الأزمة كانت أغلب الحكومات الغربية على الجانب الخاطئ من التاريخ، وعلى خلاف ما أسست موقفها عليه في الحرب الأوكرانية المتمثل في انتهاك روسيا للقواعد التي تحكم النظام الدولي، ودفعت المحكمة الجنائية الدولية لأن تضع الرئيس الروسي على قائمة الاتهام وتبادر إلى رصد الانتهاكات التي تقوم بها القوات الروسية في حربها. كل هذا عين ما تفعله إسرائيل وزيادة، ولكن دون شجب له أو إدانة.
في المقابل نشطت المظاهرات في كثير من العواصم والمدن الغربية مع تصاعد المجازر الإسرائيلية، وتصاعدت المطالب بايقاف الحرب. نشط المؤثرون والمؤثرات في السوشيال ميديا في تقديم سرديات بديلة تؤكد على حقوق الفلسطينيين، وقاموا بدعم حملات التبرع لأطفال فلسطين. نشطت حركات شعبية لدعم فلسطين ضمت مكونات متعددة: يسار وحركات نسوية ومجتمعات الميم، بالإضافة إلى السود والمسلمين والعرب بالطبع. كان اليهود -خاصة الشباب- المناهضين للصهيونية في مقدمة الصفوف.
كتبت مبكرا بعد خروجي من السجن مباشرة أن “يا محتجي العالم اتحدوا“.
كانت وجهة نظري- وقتها ولا تزال- هي وحدة ساحات النضال على المستوى الدولي لما يجمعها من قضايا مشتركة وتطلع نحو قيم إنسانية عامة. وفق هذه الرؤية يجب أن نضع نضالاتنا في المنطقة في صعيدها العالمي المشترك.
من بداية الألفية الثالثة شهدنا نضالات واحتجاجات متنوعة، أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو أحيانا أخرى، يعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من وحشية الشرطة والفساد ورأسمالية المحسوبية وغطرسة من هم في السلطة والتلاعب بالسياسة وضعف المؤسسات السياسية عن تمثيل الناس وتهميشهم الجماعي، وتفاقم التفاوتات في الثروة والدخل والفرص، واختلال المساواة بين الجنسين… تطول القائمة لتضم الآن فلسطين وقبلها ايقاف حرب العراق ٢٠٠٣، لكن ما يجمعها طلب إنساني عالمي على الكرامة والعدالة والحرية.
أكدت لنا الحرب على غزة تضامن الرأي العام في كثير من بلدان الغرب في مخاصمة واضحة لحكوماتهم. هذه الحقيقة نحتاج إلى المراكمة عليها والاستفادة منها، ولعل مزيد من حضور العرب والمسلمين في هذه المظاهرات ما يساعد علي مزيد من الاندماج في هذا الحراك.
أثمر انفتاح خطاب حقوق الإنسان على حركات المناخ- كما جرى في مؤتمر شرم الشيخ بمصر- مزيدا من تسليط الضوء على الانتهاكات التي تقوم بها السلطات المصرية في مجال حقوق الإنسان؛ في ادراك محمود بأنه لا تقدم في الأولى دون الثانية.
ما ينقصنا هو القدرة التحليلة التي ندرك بها العلاقة بين هذه القضايا جميعا وبين مرجعيات حقوق الإنسان، بالإضافة إلى رسم الخرائط التفصيلية لهذه الحركات بما يساعد على مزيد من التشبيك معها، والأهم انتقال حقوق الإنسان من أن تكون نخبوية ضيقة إلى حركة جماهيرية متسعة.
٢- حقوق الإنسان بين القيم الغربية والقيم الإنسانية المشتركة:
استند تقييم السلوك الإسرائيلي أساسا إلى المرجعيات المختلفة التي نشأت على مدار عقود في هذا الموضوع. وبرغم ما يبدو من وهن وتراجع على المستوى الإلزامي لها في التنظيم الدولي المعاصر؛ إلا أن التنازل عنها أو غيابها سيجعل البشرية في حالة فوضى، وقد يرجعنا إلى شريعة الغاب.
أثبتت الأمم المتحدة بمواقفها في هذه الأزمة القدرة على تأكيد القيمة المعنوية لهذه القواعد برغم شللها وعدم قدرتها على إيقاف العدوان.
أري أنه لا مصلحة على الإطلاق في إهدار هذه القواعد وما استندت إليه من اتفاقيات وآليات في التنظيم الدولي. هي منجز إنساني ساهم فيه الجميع، ومن الضرر التخلي عنه بأي حال. صحيح أن الغرب قد ساهم بنصيب وافر في تشكيل هذه القيم والقواعد؛ إلا أن هناك أطرفا عديدة وثقافات وأطرا حضارية شاركت في تشكيله أيضا، وهو ما يجعله منجزا يحسب للإنسانية جمعاء، ويجب الحفاظ عليه والبحث عن كيفية تفعيل إلزاميته حتى لا يكون تعبيرا عن موازين القوى في النظام الدولي- كما هو الآن.
٣- من الايجابيات التي تحققت في هذه الأزمة أنها برغم المعاناة الفلسطينية وعظم الجرم الإسرائيلي إلا أنه على المستوي الرسمي العربي، وفي دوائر غير رسمية عديدة تم على الأقل التبرؤ مما جرى يوم ٧ أكتوبر من تجاوزات في حق المدنيين والنساء والأطفال.
أنا ادرك أن الصورة مختلطة ويشوبها التشويش لأسباب متعددة منها: الادعاءات الإسرائيلية، والحساسية من إثارة الموضوع الآن في ظل التجاوزات الإسرائيلية الفظيعة وعدم انتهاء المعركة، والخلط الفكري وعدم حسم المرجعيات التي نستند إليها، بالإضافة إلى استدعاء بعض المفاهيم الدينية والأحكام الفقهية التي تحتاج إلى مراجعة وتدقيق وبيان علاقتها بالوقائع الحالية، وهو ما يمكن أن نخصص له مقالا مستقلا.
دعت التجاوزات التي جرت يوم ٧ أكتوبر المقاومة إلي التبرؤ منها ورفض نسبتها إليهم -كما صرح نصر الله أمين حزب الله في خطابه – الجمعة ٣ نوفمبر، أو التراجع عنها -كما في مسألة قتل رهينة مقابل كل مذبحة تقوم بها إسرائيل، أو إعادة توصيف المدنيين المحتجزين باعتبارهم ضيوفا. لا يمكن أن نترك هذه النقطة دون أن نشير إلى تأسيس خطاب المقاومة على الصهيونية والاحتلال والانتهاكات في حق الأسري والمدنيين لا على معاداة اليهود.
نحن بإزاء تطور يجب أن يُلتقط، ويُبنى عليه، ويتم التحاور بشأنه، موقنين أن الانتهاكات التي يقوم بها الأطراف المختلفة يغذي بعضها بعضا، وتقدم مبررا للطرف الأقوى إلى مزيد من الانتهاكات.
تعلمنا ألا يَجْرِمَنَّا شنآن قوم على ألا نعدل، ويقتضي منا ذلك: “اعدلوا هو أقرب للتقوى”.