أثارت معالجة كثير من وسائل الإعلام الغربية لحرب غزة، نقاشا واسعا حول مدى احترام القواعد المهنية، حين يتعلق الأمر بقضايا كبرى، ترى المنظومة الحاكمة، أنها جوهرية، ويجب أن يكون الجميع داخل إطار التوجه السائد، ويسمح فقط بالاختلاف حول التفاصيل.
صحيح أن هناك منصات إعلامية خرجت عن الخط المرسوم، والبعض الآخر اضطر، أن يخرج عن الرواية الإسرائيلية أمام هول ما يجري في غزة من جرائم بحق المدنيين الفلسطينيين، ولكن هذا لم يمنع وجود فارق كبير في المهنية التي تتعامل بها منصات عالمية كبرى في قضايا اجتماعية وسياسية، لا تعتبرها المنظومة الحاكمة مصيرية، وبين ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية.
والحقيقة إن السؤال الذي يجب طرحه قبل مناقشة أداء منصات الإعلام الغربي تجاه حرب غزة، يتعلق أولا، بكيف اعتُبر الدفاع عن إسرائيل قضية غربية، ويتم تبريرها بكل الوسائل، أكثر مما جرى مع حروب الولايات المتحدة نفسها في العراق وأفغانستان، حيث وجدنا تقارير صحفية لقنوات كبرى مثل، بي بي سي، و سي إن إن، تكشف جرائم ارتكبها الجنود الأمريكيون، واستهداف لمدنيين، في حين أنها لم تفعل نفس الشيء، فيما يتعلق بجرائم الجيش الإسرائيلي اليومية في غزة، حتى بدت إسرائيل بالنسبة لبعض الأمريكيين أغلى من أمريكا نفسها، وهو تناقض صارخ يحتاج لتأمل.
والحقيقة يمكن القول، إن صور الانحياز الإعلامي الغربي لإسرائيل، أخذت شكلين في حين ظهر شكل ثالث شعبي” على مواقع التواصل الاجتماعي، وسماه البعض “إعلام المواطن”، وانحاز بشكل كامل للقضية الفلسطينية.
الصورة الأولى، هي نماذج الانحياز الفج التي تدعو ضيوف مؤيدين لإسرائيل، وإذا حضر ضيف آخر محايد، أو يبدو من كلامه، أنه متعاطف مع القضية الفلسطينية، والمقصود هنا بالتعاطف، أن يطالب الجميع، أن يلتفتوا لحقوق الفلسطينيين التي أقرتها الأمم المتحدة، والضحايا المدنيين الذين يسقطون كل يوم في غزة، وهنا نجده يتعرض لحصار من قبل المحاور مع ضيوف الحلقة الآخرين، وإذا كانت حجته قوية فيتم إدخاله في قضايا أخرى، وتفاصيل فرعية تضعه في موقف الدفاع.
وإذا أخذنا نموذج قناة BFM الإخبارية الفرنسية، فسنجدها مساء الاثنين الماضي، قد حاصرت ضيفا وحيدا، وسط ثلاثة ضيوف، ومعهم المحاور مؤيدين لإسرائيل، وأدخلته في نقاش حول شعار رفعته مجموعة قليلة من المتظاهرين يوم السبت الماضي ٤ نوفمبر (قدر عدد المشاركين في هذه المظاهرة بحوالي ٦٠ ألف)، إن إسرائيل كدولة احتلال ليس لها حق الدفاع عن النفس، وهو تعبير سبق، واستخدمه عمرو موسى، وفيه كثير من الوجاهة، ويسلط الضوء، على أن الجريمة الحقيقة في فلسطين هي الاحتلال.
ومع ذلك، اعتبره المحاور، أنه معادٍ للسامية، ويعني عدم الاعتراف بإسرائيل، وبالتالي يبرر أي اعتداء على الإسرائيليين، وهو ما سيعني وفق قانون جديد صدر في فرنسا عداء للسامية؛ يستوجب العقاب.
وأنبرى ضيف آخر مؤيد لإسرائيل يقول، إن مظاهرة “التروكاديرو” (منطقة ثرية في قلب باريس) المؤيدة لإسرائيل، غنت النشيد الوطني الفرنسي في حين هتف بعض المتظاهرين في مظاهرة ميدان الجمهورية (حي شعبي في قلب باريس)، الله أكبر وهو دليل على دعمهم التطرف، والإرهاب وعدم الولاء لفرنسا.
كل هذه الصور من الانحياز هدفها الرئيسي؛ صرف أنظار المشاهدين عن مناقشة القضايا الحقيقية، وهي الاحتلال الإسرائيلي، وحجم الضحايا المدنيين في الجانب الفلسطيني.
أما الصورة الثانية، وهي الانحياز الأقل فجاجة، أو الذي لم يتخل عن قواعده المهنية، وخاصة المنصات الكبرى مثل، بي بي سي، وهنا سنجد، أنها حرصت، أن تدعو بشكل متوازن ضيوف من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، فظهر مصطفى البرغوثي في حوار ممتاز يوم الثلاثاء الماضي، وتحدث بمفرده، وبشكل متزن عن جرائم الاحتلال ،وكان المحاور مهنيا، كذلك تكرر الأمر في فرنسا ٢٤ التي عرضت بشكل متوازن وجهتي النظر.
تبقي المشكلة، في أن مسئولية الاحتلال التاريخية والسياسية والأخلاقية عن العنف الذي يجري في الأراضي الفلسطينية أصيلة، وهو أمر لا يناقش بصورة كافية في هذه القنوات، بحيث تبدو عملية ٧ أكتوبر، وكأنها هبطت من السماء على واقع سويدي، وفي بلد مستقر، يعيش في رخاء، ودولة قانون والحقيقة، إنها حدثت في مواجهة سلطة احتلال ارتكبت جرائم قتل، وتهجير وبنت عشرات المستوطنات، وقضت على حل الدولتين، دون أن يحاسبها أحد، وهو ما يظهر خافتا في وسائل الإعلام الكبرى التي تحاول، أن تحتفظ بمهنيتها.
أما الصورة الثالثة، “الشعبية” فكانت بالأساس على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدا موقع X (توتير سابقا)، واليوتيوب وبدرجة أقل الفيس بوك، بجانب آلاف الحسابات الشخصية؛ لمؤثرين في أوروبا وأمريكا؛ انحازوا بشكل كامل للقضية الفلسطينية، واعتمدوا جميعا على نقل صور حية، لما يجري في غزة من مجازر جماعية، مهما كانت درجة بشاعتها، وكتبوا أسماء الأطفال الذين قتلوا؛ ليظلوا في الذاكرة الجمعية لشعوب العالم، وعرضوا كل المآسي الإنسانية، وأسهبوا في سرد الجرائم الإسرائيلية.
ولذا لم يكن غريبا، أن نجد في الغرب حاليا “عالمان” الأول، يضم النخب الحاكمة، ودوائرهم المهيمنة في المال والأعمال والإعلام، ومعظمهم من الأجيال الكبيرة والوسطى، أما الثاني، فهو إعلام الشباب المهيمن على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي أصبح منفصلا تماما عن إعلام المنظومات الحاكمة، ورافضا لكل منصاتها بما فيها الأقرب للمهنية، وأصبح له سرديته الخاصة التي حسمت دعمها الكامل للقضية الفلسطينية، وأصبحت إسرائيل رمزا للقوى المهيمنة والاستعمارية الذي يحاول هذا الجيل، أن يؤسس لمجال إعلامي خاص به وفي مواجهتها.