في خضم حرب الإبادة على غزة، يطرح سؤال “حزب الله” نفسه على رأي عام عربي غاضب، وقلق، خشية تصفية القضية الفلسطينية بالتهجير القسري، أو بأية سيناريوهات أخرى.
تبدى رهان واسع على دور عسكري جوهري لـ”حزب الله”، وأمينه العام “حسن نصر الله” على الجبهة الشمالية الإسرائيلية، يربك أية خطط؛ للاستفراد بالمقاومة المسلحة في غزة والإجهاز عليها.
وقد ساعدت الأجواء والإشارات، التي استبقت خطاب “نصر الله” الأخير، على رفع سقف التوقعات، كأن يعلن توسيع نطاق المواجهات العسكرية، والدخول في حرب مفتوحة.
لم يلامس خطاب “نصر الله” تلك التوقعات، رغم نبرته العالية في التضامن مع أهل غزة ومقاتليها.
كان ذلك داعيا إلى تساؤلات عن حقيقة موقف “حزب الله”، وإذا ما كان سوف يسمح بهزيمة المقاومة في غزة.
“نصر الله” قال في خطابه، إنه لن يسمح بذلك، ولا بتصفية “حماس”، دون أن تكون هناك خطوات عملية معلنة.
بقوة الحقائق الماثلة، فإن “الجهاد الإسلامي” أقرب إلى “حزب الله”، لكن “حماس” ترمز في هذه اللحظة إلى المقاومة، وتكاد تلخصها.
حافظ “نصر الله” في خطابه على قواعد الاشتباك، مناوشات واشتباكات، وتبادل قصف عبر الحدود، دون توسيع نطاق المواجهات.
في الأيام التالية شهدت الجبهة تصعيدا تدريجيا لنطاق العمليات وزيادة معدلاتها، وجرى قصف بعض المواقع الإسرائيلية للمرة الأولى، منذ حرب تموز (2006).
كان ذلك تعديلا ملموسا، لكنه محدود في قواعد الاشتباك.
حسب أرقام وزير الدفاع الإسرائيلي فإن “حزب الله” قدم (70) شهيدا.
بصياغة مباشرة، قال الوزير الإسرائيلي: “ليست لنا مصلحة في فتح حرب مع حزب الله”.
هنا بالضبط جوهر الخيارات الصعبة التي يجد “نصر الله” نفسه أمامها.
بنص خطابه، فإن كل الخيارات مفتوحة لمقتضى ما قد يهدد لبنان، أو تتطور إليه الحوادث الدموية في غزة، دون أن يحسم المدى الذي يمكن، أن يذهب إليه.
بدا ذلك داعيا لهجوم غير منصف، وغير عادل عليه من خصومه ومناوئيه، كما من أصدقائه وحلفائه.
بعض دواعي الهجوم تعبير عن قلق عام طبيعي ومشروع.. وبعض الدواعي الأخرى أقرب إلى تصفية حسابات مع إيران، وحلفائها في المنطقة.
في الحالتين يتبدى سؤال جوهري: أين الأدوار الأخرى؟.. أين العالم العربي بنظمه وقياداته؟
لا يصح تعليق المسئولية كلها في رقبة رجل واحد، وإعفاء الآخرين من أية مسئولية تقصير، أو تواطؤ!
القضية الفلسطينية لا تلخصها “حماس”، أو ما يطلق عليه “محور المقاومة”، إنها مسئولية أوسع وأكبر بقدر عدالتها، ومركزية تأثيرها على المصير العربي.
لكل طرف إقليمي حسابات تحكم مواقفه، ولكل خيار تكاليفه.
هذه حقيقة، تسري على الأطراف كلها، لا على طرف دون آخر.
حسابات “حزب الله” تلخصها اعتبارات وقيود.
الأول، أن توسيع نطاق المواجهات العسكرية مع إسرائيل يعني بالضبط إدخال لبنان المأزوم بقسوة بالغة في حرب إقليمية واسعة، تهدد ما تبقى فيه من تماسك.
هناك شغور رئاسي لا يمكن تجاهله، وحكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات، وأزمة اقتصادية ومالية طاحنة، وتناقضات داخلية، تحجب فرص أي توافق وطني.
إذا وسع “حزب الله” نطاق المواجهات، ومداها فهو يقحم البلد فيما لا يحتمل، وإذا تمهل بعض الوقت لضبط أوضاعه، فهو متخاذل وسياساته لا تتسق مع دعاياته.
الثاني، أن أية مواجهة عسكرية واسعة قد تفضي إلى أن يجد “حزب الله” نفسه طرفا في حرب مباشرة مع القوات الأمريكية.
عندما تعرضت إسرائيل لصدمة السابع من أكتوبر، وبدا جيشها واستخباراتها في أحوال هزيمة مذلة، هرعت الولايات المتحدة إلى إرسال حاملتي الطائرات “جيرالد فورد” و”إيزنهاور” وبوارج حربية لشرق المتوسط، حتى لا يفكر “حزب الله”، وإيران بالذات، في “استغلال الوضع”؛ لتوجيه ضربة قاتلة لإسرائيل المهزوزة.
كانت تلك رسالة ردع مقصودة، وتلويح بالتدخل العسكري المباشر.
لم يكن ممكنا تجاهل تلك الرسالة.
المسألة تستدعي التحوط، قبل الإقدام على أية خطوة.
هذا خيار صعب، لكنه يبدو إجباريا.
هكذا صعد “نصر الله” في لغة الخطاب، ومال إلى التصعيد العسكري التدريجي، دون أن يتجاوز قواعد الاشتباك بصورة كبيرة.
حذر الولايات المتحدة من مفاجآت يدخرها، دون أن يكشف عنها.
لم يستبعد خيارا واحدا، ولا ألزم نفسه بعدم توسيع نطاق مواجهاته.
انطوى خطابه على شيء من الغموض في خطوته المقبلة، كما قال نصا.
الثالث، حسابات الحليف الإيراني، وهي معقدة بدورها، فإذا تخلت عن الفلسطينيين فسوف تتقوض أقوى ركائز أدورها الإقليمية، وينحسر نفوذها في المنطقة.
وإذا ما دخلت في حرب إقليمية واسعة سوف تخسر فرصها في فك الحصار المفروض عليها على خلفية مشروعها النووي، وتحسين الأحوال الاقتصادية لمواطنيها، وهذه مسألة حساسة، تدخل في شرعية النظام، وقدرته على تلبية احتياجات مواطنيه.
الرابع، سلاح “حزب الله” كحركة مقاومة، إذا ما ترك غزة وحيدة يخسر شرعيته باللحظة نفسها، ويصبح طبيعيا السؤال حول شرعية سلاحه.
حسب أدبيات الحزب، فهو يتبنى مبدأ “وحدة الساحات”.
إذا ما أخل بالتزامه تجاه “حماس”، و”الجهاد” فإن صورته سوف يلحقها ضرر بالغ، يصعب ترميمه.
هكذا يتبدى مأزق الحسابات معقدا.
خبرة حرب تموز (2006)، التي أكسبت “نصر الله” وقتها شعبية كبيرة في العالم العربي، ما زالت ماثلة في ذاكرة الخيارات الصعبة.
في ذلك الوقت بدا لافتا، أن الطائرات الإسرائيلية لم تقصف قلب بيروت، وانصبت غاراتها على الضاحية الجنوبية معقل “حزب الله” إلى درجة التهديم الكامل.
أراد “نصر الله”، أن يحمي عمق بيروت من التدمير باستخدام سلاح الردع، العاصمة مقابل العاصمة.
كانت تلك سياسة منضبطة قصدت الحفاظ على الوحدة الوطنية الداخلية، وتخفيف الضغوط على الشركاء في الوطن، أفضت إلى موافقة، دون تحفظ، على ما أعلنته الحكومة من بنود لحل الأزمة.
هكذا وافق “حزب الله” على نشر قوات الجيش اللبناني في الجنوب، لنزع أية ذرائع في الداخل اللبناني؛ لإثارة فتن داخلية، حتى لا تحصد إسرائيل بالفتن، ما عجزت عن أن تحصده بالسلاح.
حسابات مماثلة، تتبدى الآن في أوضاع أكثر صعوبة وخطورة.
في حرب تموز، بدا مستوى التخطيط الاستراتيجي الإسرائيلي فقيرا، واختراقه الاستخباراتي لـ”حزب الله” شبه معدوم، اعتمادا على القوة المجردة، دون تعرف حقيقي على قوة الخصم، وإمكاناته المستجدة.
هذا بالضبط ما كررته “حماس” في عملية السابع من أكتوبر.
في الحروب غير المتماثلة، يصعب إلحاق هزيمة مباشرة وسريعة بجيش نظامي، يقال بالادعاء، إنه واحد من أقوى الجيوش في العالم، إلا إذا كانت مستويات التدريب عالية، ونوعية التسليح متقدمة وكفوءة عند التنظيمات المسلحة، أو أن تكون هناك بروفات، واستعدادات لمثل هذه المواجهة، أخذت وقتها وعلى مهل، من خطط عسكرية وبرامج تدريب، فلا شيء يولد بالمصادفة، ولا انتصار بلا ثمن أو تدريب.
سيناريو مقارب حدث في غزة.
لم يكن أحد يشك، في أن لإيران دورا رئيسيا في تسليح “حزب الله”، وتدريب مقاتليه، غير أن اللبنانيين وحدهم الذين قاتلوا، والذين انتصروا.
الأمر نفسه في حرب غزة، وهذا يحسب لإيران لا عليها، رغم أي نفي لسبب أو آخر.
إثر احتلال العراق عام (2003) كان من رأي “نصر الله”، كما استمعت إليه في حوار ضمنا لم يكن للنشر، أن احتلال بغداد ووجود القوات العسكرية الأمريكية بصورة مباشرة في المشرق العربي، سوف يؤدي إلى تبني خطط عسكرية جديدة ضد لبنان والمقاومة فيه.
قال نصا: “لا أعد بالنصر، لكننا سوف نقاوم، قد نهزم، لكننا سوف نلحق بهم خسائر باهظة”.
كانت تلك تقديرات واقعية لحدود قوة حزب الله، لكنه أخذ، يعد لمواجهة رآها حتمية بالتسليح والتدريب والحيطة الكاملة.
عندما بدأت عمليات القتال عام (2006)، وعد “نصر الله” مقاتليه ومواطنيه بالنصر، وهو ما لم يكن متأكدا منه قبل ثلاث سنوات.
أنه رجل يدرك، ما يقول، ويتحسب للنتائج والتداعيات.
هذا ما يفعله الآن بالضبط.