كان الدكتور فؤاد زكريا ضيفا علينا في ندوة محدودة في الأهرام في أعقاب الهجوم على قاعدة مشاة البحرية الأمريكية في بيروت عام ١٩٨٣، وهو الهجوم الذي أدي الي مقتل مئات منهم، وأجبر الرئيس رونالد ريجان في التو واللحظة على سحب كل جنوده من الأرض اللبنانية، والي سحب قطع البحرية الأمريكية بعيدا عن سواحل لبنان، بعد أن ظلت تقصف مواقع منتقاة خدمة لخطة الغزو الإسرائيلي عدة أيام، و لما كان كل ذلك قد حدث فجرا ،فقد كان أشبه بالهروب، مما دفع الدكتور فؤاد في تلك الندوة الي إثارة سؤال أو قضية لماذا ينجح الإسلاميون في تغيير الواقع في المنطقة ،بينما يخفق اليساريون؟! وكان ذلك الهجوم من أوائل العمليات العسكرية الكبيرة التي نفذها حزب الله اللبناني بعد تأسيسه مباشرة بإلهام وتدريب وتمويل وتسليح من إيران.
وكما هو متوقع لم يجب السائل، كما لم يجب أحد من الحضور.
اليوم تكون أربعة عقود قد مرت على تلك الأحداث، وعلى سؤال د .فؤاد زكريا، ولا يزال الرأي العام العربي، وكذلك السياسيون والمثقفون منقسمون حول الموقف من مبدأ مقاومة الاحتلال والعدوان، خاصة الاحتلال والعدوان الصهيونيين، بما أنه لم يعد هناك من يرفع شعار المقاومة، ويمارسها فعلا إلا الفصائل الإسلامية على اختلاف توجهاتها وتحالفاتها.
فَمِن بيننا من يرفض المقاومة ويكاد يدينها لمجرد أنها إسلامية الدافع والهدف.
وبيننا مَن يرفض المقاومة لحسابات استراتيجية، مردها الخلل الهائل في ميزان القوى، وفظاعة الانتقام الإسرائيلي في كل مرة.
وهناك من يشفق من توريط بلاده والمنطقة في حرب لا تريدها جميع الدول العربية، خاصة، الدول المجاورة لإسرائيل .
وبالطبع هناك من يرفض ويدين لأن المقاومة تكشف عجزه، وقلة حيلته أمام نفسه، وأمام الجميع، لا سيما إذا كان مسئولا رسميا.
أما الذين يتعمدون تعميم وصف الإرهاب على كل فعل مقاوم، ويبدأون القصة من فصلها الذي تجري أحداثه، ودون اعتبار للسياق الأشمل، فإنهم يتبنوْن الرواية الإسرائيلية الأمريكية حرفيا.
كل تلك المواقف والأحكام هي في رأيي اجتزاء للحقيقة، وللمبدأ الأصلي، فالقضية الفلسطينية العادلة أكبر كثيرا، من أن تكون قضية إسلامية، أو قضية عربية، أو حتى قضية تمس الأمن القومي للدول المحيطة، أو الأمن الإقليمي.
إنها قضية تحرر وطني، وحقوق شعب تعرض لأبشع عدوان استيطاني مستمر من الصهيونية والاستعمار الأوروبي التقليدي، والإمبريالية الأمريكية المعاصرة، والقضية بهذا المعنى تستحق تأييد أصحاب الضمائر والمؤمنين بالعدل والمساواة والسلام في كل أنحاء العالم، مثلها في ذلك مثل الشعب الإفريقي في كل من روديسيا الجنوبية (زيمبابوي حاليا )وجنوب إفريقيا، ومثل الشعب الفيتنامي، والشعب الجزائري، بل والشعب اليهودي نفسه في مواجهة الهولوكوست الهتلري، وكل أشكال الاضطهاد والتمييز ضده قبل هتلر وبعده.
بهذا المعيار أجدني غير مضطر للموافقة على إيديولوجية حماس، ولا على كل ممارساتها، لكني في نفس الوقت لست مستعدا لإدانتها، ومعارضة حقها في المقاومة، ونزع هذا الشرف منها لمجرد اختلافي مع هذه الممارسات، وتلك الأيديولوجية، خاصة إذا كانت هذه المقاومة تؤدي إلى تغيير الواقع، بالطريقة التي دفعت د.فؤاد زكريا إلى ذلك التساؤل قبل أربعة عقود من الآن.
ألا يعترف الجميع بأن هجوم السابع من أكتوبر على إسرائيل أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العالمي، بعد أن كادت تُنسى في زحام الصفقة الأمريكية السعودية الإسرائيلية؟
كذلك أليس من المتفق عليه الآن أن هجوم حماس هدم أسطورة الردع الإسرائيلية؟ ليس ذلك فحسب، ولكن لم تعد خسارة إسرائيل لحربها ضد غزة احتمالا مستبعدا في رأي خبراء إسرائيليين وأمريكيين ،كان آخر من قرأت له منهم جون ألترمان مدير معهد واشنطن لدراسات الأمن والاستراتيجية.
ثم أليس من المؤكد الآن، ومقدما أن هذا الهجوم أنهى الحياة السياسية لبنيامين نتنياهو، ومن المحتمل كذلك، أن يؤدي هجوم حماس وحرب غزة إلى إنهاء هيمنة اليمين القومي، والديني على الحياة السياسية في إسرائيل؟
وبالمناسبة، فإنني أكتب هذه السطور، بعد أن قرأت تقريرا مطولا في صحيفة واشنطن بوست اشترك في كتابته أربعة محررين متخصصين في الشؤون العسكرية يسرد قدرات حماس القتالية وفاعليتها، وخاصة في مجال الصواريخ المضادة للدبابات، ويثبت جدية وجدارة خططها العسكرية.
وأخيرا من ينكر التغير المواتي في موقف الرأي العام في معظم دول أوروبا، بل وفي الولايات المتحدة نفسها من جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة؟ كل هذه تغييرات جوهرية وإيجابية رغم الأسى لحجم الخسائر البشرية، والدمار الشامل والنزوح الجماعي للفلسطينيين إلى جنوب قطاع غزة، ورغم عمليات القتل الجماعي الإسرائيلية في مدن ومخيمات الضفة الغربية، ولهذا فلا معنى، ولا طائل من رفض البعض منا تجاوز خطوط الانقسام حول حماس، على الأقل إلى أن تسكت المدافع.