عندما تعود مصر إلى مكانها الصحيح
مصر الحديثة ذات ستة أبعاد:
1- السبق إلى الاستنارة مع مطلع القرن التاسع عشر.
2 – السبق إلى الديمقراطية والحكم الدستوري في الربع الأخير من القرن ذاته.
3 – السبق إلى الاستقلال الوطني مع بناء نموذج ديمقراطي ليبرالي في الربع الأول من القرن العشرين.
4 – السبق إلى الإسهام في إلهام وقيادة حركات التحرر الوطني في المنطقة والعالم في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
5 – السبق إلى كسر نظرية الأمن الإسرائيلي في حرب أكتوبر 1973م.
6 – من تأسيس الدولة الحديثة حتى حرب أكتوبر كانت مصر تنفرد عن كافة الجوار شرقها وغربها بأمرين : عاصمة ذات مؤسسات ومرافق لا نظير لها في الإقليم، ثم نخبة حديثة متنورة متعلمة متفوقة كذلك لا نظير لها في الإقليم، حتى ومصر مهزومة أو تحت الاحتلال كانت تمتاز – في أحلك اللحظات – بعاصمة سياسية رائدة، كما كانت تمتاز بنخب قائدة في العلوم والفنون والآداب.
لكن في الخمسين عاماً الأخيرة، أي من بعد حرب أكتوبر 1973م، اختارت مصر – عن وعي أو غفلة – أن تستريح من كل وجوه السبق التي أنفقت فيها قرنين من عمرها. استراحت من أعباء الاستنارة فانفتحت أبوابها لكل موجات الفكر البعيد عن تحديات العصر. ارتدت عن مواصلة الكفاح الدستوري والديمقراطي فسقطت في فخ الحكم الفردي المصحوب بالفساد والترهل وغياب الكفاءة وانعدام المعايير. تخلت عن رسالتها القيادية فنزلت إلى مصاف دولة عادية. اختارت نوعاً من الواقعية المستكينة انتهت بها في خمسين عاماً 1973م – 2023م من دولة ذات شأن منفرد في الإقليم ومعدود في العالم إلى دولة يزاحمها – حتى في عقر دارها – وحدات سياسية ناشئة لم تكمل أقواها مائة عام من عمرها.
كان من الممكن أن تكون فترة الواقعية 1973 – 2023م فترة بناء ذاتي ونهوض داخلي وحيازة لمقومات القوة، لكن هذا لم يحدث، كانت ومازالت واقعية عشوائية. الواقعية الرشيدة تعني التوازن بين الإمكانات والطموحات وبين القدرات والتحديات وبين التحول السريع والتمهل على تدرج وفترات. واقعية الخمسين عاماً لم تكن كذلك، أي لم تكن موازنة بين الوسائل والغايات، لكنها كانت واقعية سلبية، وربما واقعية عدمية، مسكونة بعقدة الهزائم الكبيرة التي وقعت بسبب الطموحات الكبيرة والتقدير المبالغ فيه للذات والإمكانات في بعض المراحل السابقة عليها.
خلاصة الواقعية في الخمسين عاماً: أصبحت مصر ديكتاتورية عادية، لا فرق بينها وبين أي ديكتاتورية عربية، إلا أنها ديكتاتورية فقيرة بدأت مسيرة فقرها بتلقي المساعدات من إمبراطورية في وزن الولايات المتحدة الأمريكية، ثم وصلت مسيرة فقرها إلى حد أن عرضت أصولها الاقتصادية للاستحواذ عليها من طرف وحدات سياسية عربية ناشئة طارئة على التاريخ وعلى السياسة وعلى الثروات وعلى النفوذ ولم تكن شيئاً يُذكر قبل خمسين عاماً.
المائة عام الأخيرة من تاريخ مصر 1923 – 2023م هي عمر الدولة القومية، حيث انقطع ما بقي من أطلال السيادة العثمانية، وحيث بدأت أولى محطات الاستقلال عن الإنجليز، وحيث تبلور – للمرة الأولى – مفهوم الأمة المصرية القائمة بذاتها دون تعليق وجودها على شروط من خارجها. هذه المائة عام بدأت بالكفاح لهدفين : الحكم الدستوري والاستقلال الوطني، أي التخلص المزدوج من الطغاة والغزاة معاً.
ذاك الكفاح، بهذين الهدفين، اعتمد أساليب العمل السياسي حيث أحزاب تتنافس على كسب أصوات الناخبين، وقد أسفر ذلك الكفاح عن طبقة سياسية حديثة كانت – رغم انحيازاتها الطبقية – نموذجا للتفوق والاستنارة والريادة في الإقليم، ريادة من تلقاء نفسها، لم تكن تقصد ذلك، ولم تكن تسعى إليه، كانت تسعى للتفوق في مواجهة الاستعمار وكانت تتسابق مع نفسها وليس مع غيرها . كانت السياسة اختصاص أعلى المصريين تعليماً وتفكيراً وثقافةً، جمعوا بين السياسة وبين الفكر والفقه والقانون والأدب والفلسفة والفنون. صحيح أن تلك النخبة كانت – في أغلبها – من الذوات المتمصرين من ترك وشركس وغيرهم ثم من أعيان المصريين الذين هم كبار الملاك من الفلاحين ثم أفندية الطبقة الوسطى، ثم صحيح كذلك أن عامة المصريين لم يكن لها منافذ تصل بها إلى مصاف تلك الطبقة، لكن الصحيح قبل وبعد ذلك: أنها طبقة عظيمة منحت مصر – بعد ألفي عام – روحاً وطنية معتدلةً مستنيرةً مثقفةً مسئولة، طبقة أعادت تشكيل مصر خلقاً جديداً سواء في مواجهة الطغاة من سلالة محمد علي باشا ( فؤاد ثم فاروق ) أو في وجه الغزاة من الإنجليز.
نخبة النصف الأول من القرن العشرين لم يكن لديها طموح لقيادة العرب لكن إنجازاتها جعلتها وجعلت من مصر وعاصمتها قبلةً يتوجه شطرها كل العرب وينظرون إليها في إجلال وإكبار، هذه النخبة – بالذات في الربع الثاني من القرن – أعطت مصر دفعةً قوية ووثبت بها وثبةً عظيمةً فوق حواجز الطغاة من الملوك والبغاة من الانجليز، ثم هذه النخبة ارتفعت بالشعب وارتفع بها الشعب إلى ذروة الحضور التاريخي الذي وصل أعلى درجات الوضوح في الأربعينيات من القرن العشرين.
ففي ذاك العقد كانت النخبة قد تعددت منابعها وتنوعت روافدها لتشمل مصر الفتاة والإخوان والشيوعيين، ففي الأربعينيات من القرن العشرين بلورت النخب الوطنية رفضها ليس فقط للاحتلال ولكن للأحلاف العسكرية مع الغرب ثم في نهاية العقد تبلور الموقف الوطني من نشأة إسرائيل وعدم الاعتراف بها أو التفاوض معها وأغلقت مضايق تيران وصنافير في وجه الملاحة الإسرائيلية. ولم يكد ينتصف القرن حتى كان التوجه العربي للنخب المصرية قد نضج على لهيب: القضية الفلسطينية ثم لهيب التحرر من الاستعمار في شرق العالم العربي ومغربه وباتت القاهرة ملاذ الثوار والأحرار من كافة الشعوب العربية.
ثورة 23 يوليو 1952م ورثت هذه التوجهات التحررية العربية الاستقلالية عن العهد السابق عليها، وقد واصلت المهمة ذاتها لكن مع عدة فوارق: أن حكم يوليو طرح نفسه قائداً وملهماً للثورة العربية حيثما وجدت ثورة عربية، لكنه لم يوازن بين إمكانات مصر وطموحاتها، غلبت الطموحات على الإمكانات، انكسرت دفة القيادة في 1967م، وانفتح الطريق للواقعية التي استمرت حتى يومنا هذا، وظلت تتدهور بالتدريج حتى فقدت الأمرين معاً، فقدت الإمكانات مثلما فقدت الطموحات، واقعية مخوخة من داخلها، فهي فاقدة للحلم، فاقدة للقدرة، تحارب كل مبادرة، وتتوجس خيفةً من كل أمل. واقعية مريضة أنهكها المرض، أطمعت في مصر كل محدث نعمة وكل مستجد على التاريخ وكل طارئ على القوة.
حتى تعود مصر إلى مكانها الصحيح، يلزمها الخروج من الواقعية المريضة، فقد طالت أكثر مما يلزم 1973 – 2023م، وبات واضحاً لكل ذي بصيرة من المصريين أن هذه الواقعية ليست غير بيت العنكبوت تنسج خيوط الوهن حول روح مصر حتى تخنقها ثم تزهقها. وحتى تخرج مصر منها يلزمها عدة شروط:
1 – أولها: أن تكون ديمقراطية، وأن تعلم أن الديمقراطية وليست الديكتاتورية هي الخيار الطبيعي للدولة المصرية، بما أن كفاح المصريين من الثورة العرابية 1881م حتى ثورة 25 يناير 2011م جعل من الديمقراطية أولوية أولى وشرطاً جوهرياَ لكل إصلاح سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي. بالديمقراطية يتحقق الاتساق بين كفاح الشعب وطبيعة الدولة. بالديمقراطية تتميز مصر عن القوى الصاعدة من الوحدات السياسية ذات الفوائض المالية التي تسن أسنانها لتنهش مصر وتسلب دورها وتغتصب مكانتها وتسرق صروحها قالباً قالباً وطوبةً طوبة. هذه الوحدات الطارئة على التاريخ لم تكن سعيدة بالدور القيادي لمصر في الخمسينيات والستينيات، ولم تكن سعيدة بوثبة شعب مصر العالية في ثورة 25 يناير 2011م. هذه الوحدات السياسية الناشئة لم تدخر جهداً في إفشال الوحدة المصرية – السورية 1958 – 1961م، ولم تدخر جهداً في استنزاف مصر في اليمن 1962- 1967م، ولم تدخر وسعاً في إغراق مصر بنفوذها الديني المدمر عقب النكسة في 1967م، ولم تتأخر في إفساد ثورة 25 يناير وكافة ثورات الربيع العربي وتحويلها من فرص للنهوض إلى عثرات للسقوط، سقوط الدول وانقسام الشعوب.
لا يليق بمصر أن تكون ديكتاتورية مثل هذه الديكتاتورية. الديكتاتورية في مصر تضفي شرعية على تلك الديكتاتوريات وتخدمها وتؤمن بقاءها وتفسح لها مجال العمل الخفي والعلني في الإقليم. والعكس صحيح : الديمقراطية في مصر خطر، بل أكبر خطر، على وجود ثم بقاء ثم نفوذ ثم فاعلية ديكتاتوريات الفوائض المالية سواء في الجزيرة أو على شاطيء الخليج. ثم الديمقراطية تغسل وتنظف سمعة مصر وتشرف مكانتها وتعيد تسكينها في مصاف العالم المتحضر. الديكتاتورية نفي من الحضارة وتهميش في التاريخ بمثلما الديمقراطية تبييض لوجه مصر وإحياء لمجدها القديم وإلهام لمستقبلها. المستنقع الواقعي المريض الذي تغوص فيه أقدام مصر لا مخرج منه إلا بديمقراطية حقيقية تنقلها من زحمة أصاغر الدول إلى براح أكابرها.
2 – ثانيها : أن تتخلص مصر من نظرية الدول متساوية الوزن والقيمة، فهذه قاعدة نظرية فقط في مراسم الأمم المتحدة، لكن الواقع غير ذلك، الدول لا تتساوى، وتتفاوت، بمقدار ما تملك من أدوات القوة، أمريكا هي الأولى على العالم، ليس بمراسم الأمم المتحدة، لكن بما تملكه من إمكانات إمبراطورية تطوق الكون كله – الأرض والبحر والجو – بقدرات عسكرية غير مسبوقة في التاريخ، تطويق يفوق إحاطة جيوش الإمبراطورية الرومانية بالكون في العالم القديم.
وما يقال في دولة إمبراطورية مثل أمريكا من الوارد أن يُقال مثيله في وحدات سياسية ذات فوائض مالية جبارة، دورها ونفوذها وتأثيرها يذهب إلى حيث تتدفق أموالها في كل الاتجاهات. ومثلما يلزم أن تحسب مصر حساب دولة إمبراطورية فوق العظمى، كذلك يلزم أن تحسب حساب وحدات سياسية بالغة الصغر في المساحة والسكان وبالغة الحداثة في التاريخ السياسي لكن يتوافر لها مال بلا حدود مع شهية مفتوحة لدور سياسي – خفي وعلني – سقف طموحه في السماء.
غفلت مصر عن هذين الخطرين في الخمسين عاماً، حتى باتت الآن تحت ضغط الإمبراطورية من أعلى مع ضغط قوى الفوائض المالية من داخل الإقليم. الرد العملي على هذين الخطرين هو : أن تقرر مصر الخروج من مقاس الدولة المتساوية مع غيرها المستكينة للنصوص النظرية في مواثيق الأمم المتحدة، مصر – بطبيعة تكوينها الحضاري – دولة من ذوات المقاس الكبير، طبيعتها أن تكون كبيرة، العادي الذي خُلقت له أن تكون كبيرة، الوقوف في طوابير الدول العادية ليس من طبع مصر، مصر كبيرة برسالتها الكبيرة، ومنذ تخلت عن رسالتها الحضارية وهي تتراجع، التزود بالأعباء يرفع همة مصر ويحفزها ويستحضر روحها العبقرية من التاريخ للمستقبل. لقد حاولت مصر أن تتخفف من أعباء الدور الكبير فخسرت، لا هي ربحت وزناً في الخارج، ولا هي أنجزت بناءً في الداخل.
3 – ثالثها : أن تدرك حاجتها لحيازة أكبر قدر ممكن من القوة، ثم تدرك أن قوة مصر ليست في السلاح ولا في ثروات تحت الأرض أو فوقها، قوة مصر في المصريين، المصريون هم سلاح مصر وهم حصونها وهم قلاعها وهم ثروتها تحت الأرض وفوق الأرض وداخل البلاد وخارجها، مجد مصر وفخرها في المصريين، وإذا اقتصر الكلام عن الدولة الحديثة فيمكن القول أن مكانة مصر في تاريخ العالم الحديث استمدتها – بالدرجة الأولى – من أمرين : 1- أولهما القارعة التي أذهلت الشرق والغرب حين وظف محمد علي باشا إمكانات مصر – دون ديون على الإطلاق – لتأسيس إمبراطورية على خطى إمبراطورية تحتمس الثالث تفوق مساحتها مساحة مصر أكثر من عشر مرات، إمبراطورية حسبت لها إمبراطوريات القرن التاسع عشر ألف حساب ولم يجتمعوا على شيء مثلما تكاتفوا على ضرورة إجهاض هذا الطموح الشرقي العملاق. 2 – ثاني ما أعطى مصر مكانتها في العالم الحديث أنها استضافت على أرضها واحتوت واستوعبت قائمة لا حصر لها من نوابغ ومثقفين وكتاب ومفكرين وثوار وأحرار وأدباء ومهندسين وأطباء وناشرين من كل بقاع الأرض وبالذات من الشام وشمال إفريقيا كان لهم أدوار بارزة في نهضتها المعاصرة. ثم أنجبت مصر – في القرنين التاسع عشر والعشرين – عدداً من النوابغ و العباقر والأكابر في كل فن وقول وعلم وصنعة لم يتوفر أمثالهم في أي بلد مجاور، ولم تنجب مثلهم مصر بهذا المستوى والكثرة منذ فقد حضارتها القديمة وأزاحها الفرس ثم الإغريق ثم الرومان عن صدارة وقيادة الحضارة الإنسانية. لقد أنجب العراق والشام وشمال إفريقيا عظماء أناروا بلدانهم وشرحوا صدور العرب ونوروا أفكارهم، لكن يظل علي مبارك، والطهطاوي، وعبده، ولطفي السيد، وطه حسين، وأم كلثوم، ونجيب محفوظ، رواداً لا نظائر لهم.
4 – رابعا: استعادة قوة مصر يلزمها استعادة تفوق ونبوغ المصريين، فقد توقفت مسيرة التفوق، وانقطع مدد النبوغ، مع تراجع كفاءة التعليم والصحافة والسينما والمسرح والنشر وكافة المنابع التي تشكلت في محاضنها عبقريات المصريين في القرنين التاسع عشر والعشرين، ففي العقود السبعة الأخيرة ضاقت مساحات الحرية، وانزوت هوامش التسامح، وتساقطت المعايير، وتردى مستوى الكفاءة، وغلبت المعايير الفاسدة في الفرز والاختيار، وهذا معناه بوضوح شديد: انخفاض جودة المنتج الإنساني المصري، انخفاض كفاءة البشر المصريين، ومن ثم عجزهم عن المواكبة أو المنافسة مع غيرهم من الشعوب، وهذه هي أخطر نقاط الضعف في موازين القوة الآن وفي المستقبل إذا لم يتم تداركها بحسم وحزم ومسئولية، أضعف قلاع مصر هي المدارس العمومية، وأوهى حصون مصر الآن هي الجامعات، وهذا وذاك خطر لا يقل في سلبيته عن أي خطر خارجي. آن أن تدرك سلطة الحكم في مصر أن واجبها الأول هو إعداد المصريين للمواكبة ثم المنافسة ثم التفوق في أسواق العمل وفي معامل ومختبرات العلم في أحدث مبتكراته، لا مستقبل لمصر دون المصريين، ولا معنى للمصريين دون الاستثمار فيهم، جربوا الاستثمار في الشعب، لا تخافوا من تفوق الشعب، نبوغ الشعب هو أساس قوة الدولة وهو الرصيد لحماية أمنها ورفع مركزها وبناء مكانتها.
5 – الخامسة: صحيح أن مصر – بقلبها الريفي – فيها استكانة، وصحيح أنها – بمزاجها الديني – فيها تصوف وسكينة، لكن صحيح كذلك أنها – بمقاديرها التاريخية – مركز مقاومة وتمرد وثورة ورفض، منذ علي بك الكبير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وروح المقاومة والتمرد والثورة والرفض ساكنة كهاجس دائم لا يهدأ إلا ليعود من جديد في الجهاز العصبي والفكري للمصريين، إما ثورة على الظلمة من حكامها وإما مقاومة للغزاة الطامعين فيها. لو مسحت صفحة المقاومة والثورة من ذاكرة مصر في القرنين ونصف الأخيرين تبدو لك مصر بلا ذاكرة .
قولاً واحداً: مصر الحديثة هي مصر الثورة، سواء تعثرت وأخفقت أم أصابت هدفها ونجحت. أي تصور لمصر الحديثة والمصريين المحدثين دون رفقة الثورة وصحبتها هو تصور خاطئ يجرد مصر من روحها وينزع من المصريين فضيلتهم. مصر مركز ملهم من مراكز الثورة في الشرق، هذه حقيقة فعلية مادية تاريخية ملموسة ليست مستعارة ولا مجازاً ولا افتراضاً. استحضار هذا الطبع الثوري – الذي يراد دفنه عمداً وقصداً – تحت طبع الاستكانة الفلاحية أو تحت طبع السكينة الصوفية – استحضاره فوق سطح الوعي المفكر المدرك لحقائق الذات شرط مهم لتحديد مكان مصر ومكانتها في موقعها الصحيح الذي تليق به ويليق بها. لا يليق بمصر أن تصُف نفسها مع قوى الثورة المضادة الذين يصادرون حقوق الشعوب في التنور والحرية والعدالة والكرامة.
حتى تعود مصر لمكانتها-كدولة وكأمة- يلزم أولاً أن تعود كجضارة.
وهذا هو مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.