بأي نظر استراتيجي، فإنها حرب واحدة.
مصر في متن الاستهداف لا على هامشه.
إذا ما هُزمت غزة تُضرب مصر في صميم أمنها القومي.
باسم الحق في الدفاع عن نفسها، مارست إسرائيل الحد الأقصى من التوحش الهمجي في الانتقام من غزة، أهلها ومبانيها ومستشفياتها، وكل مظاهر الحياة فيها، إثر عملية السابع من أكتوبر، التي أذلت الجيش الإسرائيلي، كما لم يحدث من قبل.
تلخصت الحرب على غزة عند خطوط البداية في هدفين رئيسيين: الأول- اجتثاث “حماس”، واستعادة قدرة الجيش الإسرائيلي على فرض هيبته، وإخافة من حوله.. والثاني- تحرير الأسرى المحتجزين في غزة لدى “حماس”، وغيرها من منظمات المقاومة المسلحة.
لم يكن الجيش الإسرائيلي وحده، فقد جرت كل جرائم الحرب تحت غطاء سياسي، وعسكري واستخباراتي أمريكي وأطلسي.
ثم تبدت بالإفراط في التقتيل الجماعي أهداف أخرى للعدوان أبعد مدى، وأخطر أثرا في مقدمتها مشروع “التهجير القسري” من غزة إلى سيناء.
لم يكن ذلك مشروعا جديدا، لكنه وجد فرصته في ظروف، وأجواء ما بعد السابع من أكتوبر.
أُخرج من الأدراج، وجرت محاولة فرضه كأمر واقع بدعم أمريكي ظاهر، حين تبدى أن هناك فرصة ممكنة.
لم تكن الإبادة الجماعية عشوائية، بل مقصودة تماما؛ لإعادة إنتاج نكبة (1948) بدفع قطاعات واسعة من أهالي غزة؛ للزحف جنوبا هربا من الموت المحقق.. إلى سيناء هذه المرة.
رغم تعثر مشروع التهجير القسري، إلا أنه ما يزال ماثلا، وقد يعاود طرح نفسه مجددا بذريعة، أو أخرى.. الآن أو في المستقبل.
لم يكن ممكنا لمصر، أن تقايض على سيناء التي شهدت كل حروبنا الحديثة بانتصاراتها، وانكساراتها بطولاتها وتضحياتها.
وليس من مصلحة مصر، أن تتمركز قوات موالية لإسرائيل عند معبر رفح.
أيا ما كانت حدة الأزمات مع “حماس” بأوقات سابقة، إلا أنه كما أثبتت الحوادث تاليا، يمكن التفاهم معها أمنيا لضبط الحدود، ومقاومة جماعات العنف والإرهاب.
لم تكن مصر وحدها في دائرة الخطر الداهم لمشروع التهجير القسري.
بالوقت نفسه تصاعدت أعمال العنف الممنهج في الضفة الغربية.
كان ذلك؛ تمهيدا لمشروع تهجير مماثل إلى الأردن، فيما يطلق عليه إسرائيليا: “الوطن البديل”.
هكذا لم تكن هناك قيمة، أو أثر لاتفاقيات “كامب ديفيد” و”وادي عربة” و”أوسلو”.
كلها ترنحت تحت ضغط الحوادث الدامية، وبدت أحاديث السلام المخاتل جوفاء، لا تضمن استقرارا، ولا تؤسس لمستقبل.
ساعد التنبه المصري المبكر لمخاطر التهجير القسري على تعطيل، لا إلغاء، ذلك المشروع الكارثي، الذي يتهدد سلامة ووحدة أراضيها.
أبدت الأردن تنبها مماثلا، ساعد بدوره على توسيع نطاق التضامن العربي والدولي.
تراجعت الولايات المتحدة إلى الخلف خطوة، أو خطوتين.
أعلنت معارضتها للتهجير القسري، لكنه إعلان لا يعول عليه، ولا يدعو إلى اطمئنان.
بدا مستلفتا، أن يعاود وزير المالية الإسرائيلي الصهيوني المتطرف “بتسلئيل سموتريتش” دعوة “عرب غزة” للهجرة الطوعية!.. كأن هناك يهودا، يعيشون في القطاع، وأنه إذا كانت الهجرة القسرية صعبة الهضم، فلماذا لا تكون طوعية؟!
لم يقل إلى أين؟.. ولا كيف؟!
بما هو واضح ومؤكد، فإن التهجير القسري الطوعي مستحيل تماما، صلب خيارات الحكومة اليمينية الحالية؛ لحل المشكلة الديموجرافية، حيث يكاد تتساوى أعداد العرب، واليهود في فلسطين التاريخية.
لا “حل الدولتين” قابل للتحقق.. ولا حل الدولة الواحدة، دولة كل مواطنيها، ممكن.
أمام الأبواب المغلقة، سوف ينفجر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مرة بعد أخرى، بـ”حماس”، أو بغيرها.
سيناريو التهجير القسري، سوف يعاود طرح نفسه عند كل منعطف.
من ناحية تاريخية وأيديولوجية، لم تكن لإسرائيل مطامع في قطاع غزة، لا عند إنشاء الدولة (1948)، ولا أثناء مفاوضات “أوسلو” (1993).
أطلق على المرحلة الأولى من اتفاقية “أوسلو”: “غزة وأريحا أولا”.
ساد وقتها تعبير تهكمي: “غزة وأريحا أولا وأخيرا”.
هذا ما حدث تقريبا.
ما الذي استجد الآن حتى تطرح إسرائيل إخلاء القطاع من مواطنيه الفلسطينيين والاستيلاء عليه؟
توحش اليمين العنصري في إسرائيل، وضعف نخب الحكم في العالم العربي داعيان رئيسيان؛ لإعادة النظر في غزة، وفرص دمجها بالمشروع التوسعي الاستيطاني.
بالحسابات الاقتصادية والمالية، فإنه “غاز غزة”.
كان اكتشاف حقول غاز قبالة ساحل غزة على البحر المتوسط داعيا إلى طرح سؤال، إذا ما كانت ثروة الغاز، والنفط الوفيرة أحد الأسباب الرئيسية التي استدعت سيناريو تهجير سكانها؟
وفق القوانين الدولية، واتفاقية “أوسلو” نفسها، فإن آبار الغاز المكتشفة حق أصيل للفلسطينيين وحدهم.. لكننا الآن أمام إهدار مطلق لكل قانون دولي.
بالإضافة إلى إغواء غاز غزة هناك مشروع آخر حاضر، وجاهز للتنفيذ على حساب مصر، مستقبلها وأمنها، عنوانه: قناة “ابن جوريون”.
غزة بموقعها الاستراتيجي، تدخل في حسابات ذلك المشروع، الذي تقادمت عليه السنوات، دون أن يغادر المخيلة الاستراتيجية الإسرائيلية؛ لتقويض قناة السويس، ووراثة عوائدها وأوزانها في التجارة الدولية.
إذا ما نشأت أوضاع جديدة في غزة يتولى السلطة بعدها وكلاء لإسرائيل؛ فإن خسارة مصر سوف تكون فادحة.
ثم إن السيطرة الإسرائيلية الأمنية على غزة تؤمن الممر الاقتصادي المزمع بين الهند، والخليج والأردن وإسرائيل وأوروبا الذي اعتبر الإعلان عنه في نيودلهي هدية استراتيجية مجانية لأكثر الحكومات الإسرائيلية يمينية وعنصرية.
كان لافتا في ذلك المشروع استبعاد مصر وتركيا من خططه ومعادلاته، حتى تكون قيادة إسرائيل الفعلية للمنطقة أمرا ممكنا.
حرب غزة أوقفت بتفاعلاتها، وتداعياتها هذا المشروع الاقتصادي والاستراتيجي.. لكن مؤقتا.
إذا ما هزمت المقاومة في غزة فليس من المستبعد إعادة ضخ دماء جديدة فيه، أو أن تتسارع خطى التطبيع مجددا، وتجري محاولات حثيثة لتصفية القضية الفلسطينية.
بتعبير الرئيس الأمريكي “جو بايدن”: “لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها”.
المعنى، أنها ضرورة استراتيجية للولايات المتحدة في حماية نفوذها، ومصالحها بأكثر مناطق العالم أهمية وخطورة.
لم ينشأ الدعم الأمريكي المطلق من فراغ سياسي، أو استراتيجي.
نشأت فكرة الدولة العازلة بين مصر والشام، أثناء حملة “نابليون بونابرت”.
باعتقاد “بونابرت، أن مصر من حيث موقعها الجغرافي الاستراتيجي أهم بلد في العالم، ومن يسيطر عليها يتحكم في العالم بأسرة.
وقد وضع المعتمد البريطاني اللورد “كرومر” هذه العبارة في مذكراته عن مصر وفترة حكمه لها.
استشعر “بونابرت” خطورة موقع مصر الفريد على مصالح بلاده، إذا اتصلت بالشام، فإنها سوف تكون قوة عظمى.
كانت تلك الفكرة المؤسسة لإسرائيل، ضد مصر أولا وأساسا.
نظرية الأمن القومي المصري، تكاد تتلخص فيما يناقض دواعي إنشاء إسرائيل.
إذا خرجت مصر إلى محيطها العربي، فهي قوة مؤثرة ولاعب جوهري.
وإذا ما انكفأت على نفسها، فإنها تضعف وتضمحل.
هناك نظرتان إلى غزة والحرب عليها:
الأولى، تلخصها في حروب الإبادة، التي تتعرض لها وضرورات التضامن السياسي، والإنساني مع القضية الفلسطينية.
والثانية، تتسع رؤيتها بحقائق الأمن القومي، إلى أن الحرب عليها هي حرب على مصر، مستقبلها ومصيرها.