أسوأ ما يجري على الساحة الغربية ليس فقط الانحياز المطلق لإسرائيل، إنما أيضا طرح مفاهيم شديدة التطرف، وخارج سياق التطور الإنساني للمجتمعات، بل وحتى المفاهيم العلمية والسياسية التي قامت عليها النظم الديمقراطية الغربية.

وقد صنفت الولايات المتحدة، ومعظم الدول الغربية حركة حماس كحركة إرهابية، وهو ما لم تفعله مع حركة طالبان التي شاركت تنظيم القاعدة في اعتداءات 11 سبتمبر، وقتلت جنودا أمريكيين، كما أعلن الرئيس ماكرون في الأسبوع التالي لعملية 7 أكتوبر عن نيته تأسيس تحالف دولي، ضد حماس، سرعان ما تراجع عنه، ثم أعلنت مؤخرا فرنسا وإيطاليا وألمانيا توقيع عقوبات على عدد من قادة حماس.

يقينا الدول الغربية مثل، إسرائيل تصنف حماس باعتبارها جماعة إرهابية، وهو أمر وارد وفق تصوراتها الفكرية، والسياسية عن طبيعة الحركة (رغم ما في ذلك من تناقض، إذا قارناه بموقفها من حركة طالبان)، إلا أنها لا تجيب على السؤال العلمي الذي يدرسه طلاب العلوم الاجتماعية في الجامعات الأوربية، وهو لماذا أصبحت حماس حركة “إرهابية” (إذا افترضنا بصحة المصطلح)، وهل استيقظ العالم فجأة، ووجد نفسه أمام حركة متطرفة؛ نتيجة أفكار أيديولوجية منزوعة الصلة بالسياق المحيط بها، وبواقع الاحتلال والقتل والتهجير الذي تمارسه إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني؟ الإجابة بالقطع لا، لأن في الحقيقة خيار حمل السلاح، وتبني أفكار عقائدية متشددة، بات خيارا وحيدا بعد فشل كل خيارات الاعتدال والحلول السلمية.

الأمر اللافت، أن الغرب والولايات المتحدة في سياقات أخرى تبحث عن الأسباب التي أدت إلى التطرف، وتحاول تفكيكها ومواجهتها بأدوات سياسية، على عكس ما تقوله بحق حركة حماس.

ويفترض أن السياسات الاحتوائية أو الإدماجية في داخل أمريكا، وخارجها تأتي غالبا ضمن أجندة الحزب الديمقراطي الأمريكي الحاكم حاليا، وهي متسقة مع طريقة التفكير السائدة داخل الحزب، والتي تقول “نعم نستطيع”، أن نقبل المهاجرين، ونحول المتطرفين إلى معتدلين، والأفكار الثورية إلى إصلاحية عبر احتواء الجميع في منظومة قانونية عادلة، يضمنها النموذج الأمريكي القادر على استيعابهم، وجعلهم مواطنين أمريكيين “صالحين”.

وقد تكون العلاقة مع إيران نموذجا لافتا لهذه السياسة التي طبقها الرئيس الاسبق باراك أوباما، وأسفرت عن التوقيع على اتفاق خمسة + 1 في 2015، وذلك بالعمل على تعديل توجهاتها عبر تبني سياسات لينة واحتوائية؛ لتنقلها من دولة ممانعة خارج المنظومة العالمية إلى دولة ممانعة من داخلها، وسيعني من الناحية العملية فتح الباب أمام المجتمع الدولي؛ للتأثير في النظام الإيراني من خلال التفاعل السياسي، والاقتصادي والثقافي، ودفعه عمليا نحو الاعتدال.

إن فكرة الدمج والاحتواء، وإعادة التأهيل والضغوط أو المغريات السياسية؛ من أجل تغيير مواقف وسلوك كثير من الدول والأعراق وتيارات كثيرة، دمجت في النظام السياسي الأوربي والأمريكي عبر تفاعلها مع قواعد، وقوانين هذا النظام، فبقدر ما يؤثرون في النظام القائم، ويدفعونه نحو الانفتاح؛ لكي يقبل الفاعلين الجدد، يفرض عليهم أيضا ضرورة الاعتدال، والتراجع عن الأفكار المتطرفة، والالتزام بالقوانين وقواعد الشرعية الدولية.

ولم تقتصر سياسة الاحتواء الأمريكية على قوى إقليمية في الخارج، أو قوى سياسية في الداخل، إنما امتد؛ ليشكل أيضا قوة عظمى مثل، الصين التي يستعد الرئيس الأمريكي لمقابلة نظيره الصيني هذا الأسبوع بعد توتر في العلاقات بين البلدين “تم اللقاء”.

والمؤكد أن هذا التوجه الاحتوائي الأمريكي/ الأوربي تجاه كثير من الدول، والقوى والجماعات المتشددة؛ بغرض نقلها نحو الاعتدال، فعلت عكسه في فلسطين ومع حماس؛ لأن الخيار الاحتوائي تجاه أي حركة تشدد على الساحة الفلسطينية، يعني ببساطه إنهاء الاحتلال، واستحقاقات ستدفعها إسرائيل، وهذا ما لم تفعله أمريكا لحساب حليفتها العبرية “المقدسة”.

إن محاربة الأفكار المتطرفة لا يكون أساسا بقمع، أو قتل من يحملونها، إنما تغيير الظروف التي أدت إلى انتشار “التطرف”؛ لأن قوتها أساسا في الفكرة، وليس في الأعداد الكبيرة أو الصغيرة لمن يحملوها.

يقينا يمكن للدولة العبرية، ان تضعف قوة حماس، بل يمكن أيضا، أن تفكك قدراتها العسكرية، وتقتل الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، ولكنها لن تستطيع أن تقضي على فكرة أو أيديولوجية مقاومة المحتل؛ لأنها ستعود مرة أخرى في ثوب جديد، قد يكون أكثر تطرفا، لكنه سيعود ما دام بقي هناك احتلال، فستصبح هناك مقاومة أيا كان اسمها وتوجهها.

إن كل الخيارات الاحتوائية فعلت إسرائيل، والغرب،  عكسها في فلسطين، وكل تجارب التحرر الوطني التي تقول، إن النصر حتمي لقوي المقاومة، تصورت إسرائيل، أنها ستكون استثناء من هذا المصير بسياسات القتل والقمع والتهجير.

لا يمكن القضاء على حركة تحرر حتى لو صنفها البعض جماعة إرهابية، ولا يمكن اجتثاث فكرة حتى لو قضيت على التنظيم الذي يتبناها؛ لأن حركات التحرر الوطني من جبهة التحرير الوطني الجزائرية (التي صنفتها فرنسا أيضًا جماعة إرهابية) إلى تجارب فيتنام وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، وانتهاء بتجربتي طالبان وحماس وغيرهما، لا يمكن من الأصل اجتثاثها أو القضاء عليها، حتى لو تم إضعافهم لأنهم جميعا مرتبطين بقضية مجتمعية توافقت على مواجهه سلطة احتلال، وليس فقط مجرد خيار عقائدي أو أيديولوجي، وأن من يرى، أن هذه الحركات متطرفة أو إرهابية فعليه، أن يفتح بشجاعة باب النقاش حول أسباب تطرفها، أو تشددها أو حملها للسلاح (وليس إرهابها)، وسيكتشف أن السبب الرئيسي هو سياسات الاحتلال، والسياق المحيط الذي انتج اليوم حماس والجهاد، وغدا قد ينتج إرهابا مرعبا أسوأ من القاعدة وداعش.