يثير العدوان الاسرائيلي المستمر على غزة، والذي بدأ في أعقاب عملية طوفان الأقصى في أكتوبر الماضي، عدة أسئلة مهمة تتعلق بمستقبل حقوق الإنسان في مصر والعالم العربي، وبشكل خاص، لما يحدث من قصف البنايات المأهولة بالسكان، والمستشفيات والمدارس وأماكن العبادة، والذي أدى إلى مقتل ما يزيد على 11 ألف مدني، من مواطني غزة، وأغلبهم من النساء والأطفال، وهو ما يمثل جرائم حرب منهجية، وواضحة للعيان ضد الشعب الفلسطيني.

بالإضافة إلى قتل المدنيين العزل في تجاهل لكل قواعد القانون الدولي الإنساني، التي تفرق بين المدنيين والعسكريين، ولا يمكن وصف، ما ترتكبه قوات الاحتلال، إلا باعتبارها جرائم حرب والمحظورة بموجب اتفاقات جنيف، وبشكل خاص الاتفاقية الرابعة الخاصة بحماية المدنيين. وامتداد حالات القتل الجماعي لفئات أساسية، تحميها اتفاقات جنيف، أثناء ممارسة عملهم في حالات النزاع المسلح ومنها الأطباء، وأطقم الإسعاف والصحفيين.

بالإضافة إلى قصف المستشفيات، وقطع الوقود والقيام بحالة اشبه بالعقاب الجماعي، ضد الشعب الفلسطيني الأعزل من السلاح، ودفعه للتهجير القسري، وهذه كلها جرائم واضحة بموجب النظم المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقات جنيف الأربعة.

والسؤال المهم الذي نتناوله هنا، يتعلق بمصداقية الغرب في الدفاع عن مبادئ حقوق الإنسان، وعدم تبني معايير مزدوجة مع ما تقوم به دولة الاحتلال من جرائم، ولامبالاتها لقواعد القانون الإنساني. ومدى تأثير ذلك على احترام، ومصداقية مبادئ حقوق الإنسان في العالم العربي، بعد ما رأوه من استهانة بالقانون الدولي، و حق المواطنين في مقاومة الاحتلال وتقرير المصير، والذي يمثل حقوقا أساسية ضمن جيل كامل من الحقوق الجماعية التي صاغتها الأمم المتحدة، بدءا من الحق في التنمية، ومرورا بحق تقرير المصير وغيرها، وهي تمثل الجيل الثالث من الحقوق التي أقرتها المنظمات الدولية في النصف الأخير من القرن العشرين، في ظل مقاومة بلدان العالم الثالث للاحتلال الأجنبي، ومساهمتها فيما بعد في صياغة هذه المقررات ضمن عضويتها في الأمم المتحدة.

وهل سوف تستمر جاذبية حقوق الإنسان، بريق، وجاذبية، لدى الشعب المصري، في ظل ما يرونه من المعايير المزدوجة التي تقوم بها حكومات الغرب وأوروبا، وهو ما يظهر في عدة سبل منها:

أولا: مساندة العدوان الإسرائيلي على غزة بمبرر الدفاع عن النفس، بل وتقديم الدعم السياسي والعسكري لها والوقوف، ضد إصدار أي قرارات بإدانة هذا العدوان، ووقف إطلاق النار من مجلس الأمن من خلال آلية الفيتو، وتقديم الدعم العسكري بمدها بمختلف الأسلحة التي تستخدمها ضد الشعب الفلسطيني.

ثانيا: القيام بمصادرة حقوق المواطنين الأوربيين، والمقيمين العرب بهذه الدول في التعبير عن مواقفهم المساندة للشعب الفلسطيني، والرافضة لهذه الممارسات العدوانية من جانب الاحتلال، وهو ما يمثل انتهاكا لحرية الرأي، والتعبير التي أقرتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. وتقييد الحق في تداول المعلومات من خلال منع الإعلاميين من إبداء آرائهم حول ما يحدث من اعتداءات، وفي نفس الوقت فصلهم من أماكن عملهم؛ بمبرر العداء للسامية، وهو مبرر غير منطقي، إذ أن العرب ساميون أيضا، كما أنه يعطي حصانة للاحتلال الإسرائيلي، وهو آخر قوة احتلال، ويحميها من المحاسبة القضائية والجنائية، ويمنحها إفلاتا من العقاب على جرائمها.

ـ تقييد الحق في التظاهر السلمي، كما رأينا في ألمانيا، والتعامل مع المظاهرات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني بعنف بالغ، ومنعها في كثير من الأحيان.

ـ امتد الأمر إلى قيام بعض الدول الأوروبية بإلغاء إقامة بعض الشخصيات العامة؛ بسبب هذه المواقف، كما حدث مع مريم أبو دقة القيادية بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتحديد إقامتها أولا، ثم ترحيلها من فرنسا، وكما حدث بإلغاء السلطات الإنجليزية إقامة الإعلامي المصري معتز مطر؛ بسبب مواقفه الإعلامية الناقدة للاحتلال، ناهيك عن حل بعض الروابط الجامعية في بعض الجامعات الأمريكية؛ بسبب مواقفها المعارضة للممارسات الإسرائيلية ضد المدنيين.

في ظل هذا التوجه الغربي للتعامل مع إسرائيل وفقا لنموذج “الطفل المدلل” الذي يحق له فعل أي شيء طبقا لما تراه مؤسسته العسكرية؛ دفاعا عن أمنه، بالرغم من أنه قوة احتلال لأراض استولى عليها بالقوة وفقا للقانون الدولي. وهو ما يضمن حماية له على بياض ضد أي انتهاكات يقوم بها.

فهل عندما يتحدث قادة دول الغرب عن ملف حقوق الإنسان في مصر، سيكون هناك مصداقية لهذا الخطاب لدى المواطن المصري. ومدى تأثير ذلك على الإيمان بهذه المبادئ التي تمثل مرجعية أساسية في العالم؟.

كما أن ذلك التوجه الغربي الحالي يمنح دعما للأنظمة العربية في استمرار انتهاك هذه الحقوق في ظل خطاب، يشير لازدواجية الغرب في هذا الملف، ويقومون بتسويق مفهوم حقوق الإنسان باعتباره منتجا غربيا، أو أنه يستخدم بغرض سياسي في أسوأ الأحوال.

وهل عندما يثير ناشطون حقوقيون هذا الملف داخل الآليات الدولية لحقوق الإنسان، وانتقاد النهج الحقوقي الحالي، هل سيحظى هذا بمصداقية لدى المصريين، والعرب في ظل التجاهل اليومي لما يحدث من جرائم في غزة؟.

وتعتبر كثير من منظمات حقوق الإنسان المحلية، ما يحدث من انتقادات لأي انتهاكات داخل مصر دعما، ومساندة لحقوق المصريين في الاختيار، والمشاركة وحرية الرأي والتعبير، سواء من جانب المنظمات الدولية غير الحكومية، أو من داخل آليات الأمم المتحدة نفسها كالمجلس الدولي لحقوق الإنسان، أو اللجان التعاهدية الدولية، لكن عندما يرى الرأي العام المصري هذه التفرقة بين التعامل مع الشعب الفلسطيني من ناحية والاحتلال من ناحية أخرى، والذي يتم التعامل معه بالتعاطف، والدفاع عن مواقفه بالرغم من جرائمه، ضد المدنيين المسجلة بالصوت والصورة، وعشرات المجازر التي قام بها، ومنها مستشفى العربي المعمداني، وجباليا وبيت لاهيا وفي جنين ومحيط مستشفى الشفاء، والعمل على إخراج كل المستشفيات من العمل بكامل قطاع غزة، وغيرها من الأعيان المدنية مثل، المدارس والمشافي التي يتم قصفها أمام عيون بلدان الغرب، وأوروبا ومع ذلك لا يزال مسئولوها مصرين على تجاهل كل هذه الجرائم.

ولولا عدد من المواقف المستقلة، والموضوعية والتي تنطلق من مرجعية حقوقية، لكان الأمر أسوا بكثير، وهو ما ظهر في عدة مواقف من جانب المنظمات غير الحكومية مثل، هيومان رايتس ووتش والعفو الدولية، والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية والأمين العام للأمم المتحدة، وغيرهم من الشخصيات العامة الذي أكدوا عبر تقاريرهم، وبياناتهم تصريحاتهم عن مواقف منتقدة للعدوان، وجرائمه اليومية ضد المدنيين.

بالإضافة إلى رأي عام شعبي متصاعد في الغرب تبني مواقف انتقادية، لما يحدث من جرائم وعمل على فضحها، وتنظيم المظاهرات ضدها. وهو ما يتناقض مع موقف الحكومات الغربية نفسها، والتي يبدو أنها لا زالت تعيش تحت ظلال عقدة الهولوكست التي يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى الإبقاء عليها وإنمائها.

في النهاية، فإن هذا الموقف المتناقض من منظومة حقوق الإنسان، والقانون الدولي يجعل كل منهما على المحك، فأما تطبيقها أو التحرر منها من الجميع، وما لا يدركه بعض ساسة الغرب، أن ذلك يضعف الخطاب الحقوقي كثيرا في مصر، والعالم العربي ، ويجعل من ميثاق الأمم المتحدة مجرد قواعد، تُستخدم عند اللزوم، وتُنتهك في كثير من الأحيان، خاصة عندما تحدث من إسرائيل.