كان العامل المؤثر للدولة الصهيونية- عبر تاريخها القصير- في كل عملياتها العسكرية مع العرب، هو تمكنها من تحديد المدى الزمني الذي تُنهي فيه عملياتها. وكان هذا الأمر مرتبط بالأساس بامتلاكها لزمام المبادرة، أي بكونها صاحبة قرار البدء في تلك العمليات التي تخوضها؛ لتحقيق أهداف استراتيجية موضوعة سَلفًا، في ضوء تقديرات دقيقة، تأخذ بالاعتبار حسابات موازين كل من القوة الخشنة للسلاح، والقوة الناعمة للسياسة إقليميًا ودوليًا.

اعتادت الدولة الصهيونية، أن تقوم بانهاء عملياتها العسكرية، حين تفرغ من تحقيق أهدافها الاستراتيجية، وما يأتي على هامشها من أهداف فرعية. ومن هنا كانت صعوبة موقف الدولة الصهيونية في حربها المجنونة، التي تقترب من الخمسين يومًا القابلة للزيادة، دون أفق واضح، حيث دُفِعَت الدولة الصهيونية دفعًا- للمرة الثانية في تاريخها القصير- لموقع رد الفِعل، بعدما كانت في كل عملياتها العسكرية السابقة، هي صاحبة الفِعل الذي تفرض من بَعدِهِ أجندتها الخاصة.

إثر هجمات 7 أكتوبر التي نتجت عنها خسائر فادحة في أقل من 24 ساعة، قامت الدولة الصهيونية حين أفاقت من صدمةِ تلك الهجمات التي فشلت أجهزة استخباراتها في التنبؤ بها، بوضع هدفها الاستراتيجي الدائم موضع التنفيذ، لكن دون تحديد مدى زمنى للانتهاء منه؛ بسبب عدم امتلاكها لزمام المبادرة، وغياب المعلومات الدقيقة. كان الهدف الاستراتيجي يتمثل في القضاء المُبرم على المقاومة الفلسطينية بغزة، بما يشمله ذلك من أهداف فرعية، تضمنت تدمير البنى التحتية والفوقية بالقطاع، ثم منع وصول الكهرباء والماء والوقود والغذاء والدواء؛ بغرض إضعاف الجبهة الداخلية الفلسطينية، حتى ينفد صبر المدنيين العُزَل فينقلبوا على المقاومة، وهو أمر أحبطَهُ الصمود التاريخي لأهل غزة. شملت تلك الأهداف أيضًا، محاولة إحياء خططٍ تاريخية؛ لتهجير من تبقى من الفلسطينيين إلى سيناء، وهي خطط أفشلتها القيادة السياسية بمصر سابقًا في 1967، ثم عادت فأفشلتها ثانيةً بهذه الأيام في موقفٍ، لا يجوز معه سوى التقدير المُستَحَق.

كل يوم يمر على الفلسطينيين في صمودهم الأسطورى، دون تشتت أو انقسام، يُعتَبَر انتصارًا لقضيتهم على المستوى “الشعبى” دوليًا، خصوصًا في مجتمعات دول أوروبا وأمريكا اللاتينية، بل وفي الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، بما يُشَكِل عامِل ضغطٍ على حكومات دول تلك المجتمعات؛ للتفاعل “الرسمى” بشكلٍ أكثر عدالة مع القضية الفلسطينية.

وبنفس القدر الذي يتسع فيه نطاق التعاطف الشعبى الدولى مع الفلسطينيين، تتعاظم خسائر الدولة الصهيونية، بعدما وقعت في المأزق الأكبر بين فَشَلَين، أولا: الفَشَل في تحقيق أهدافها الاستراتيجية بالقضاء على المقاومة، وهو ما دفعها إلى حالةٍ من الجنون، بمزيد من سفك الدماء في أحداث، لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلًا، وكان آخرها مجازر المستشفيات، ثم مدارس الأونروا، وثانيًا: الفَشَل في الفكاك من فَخِ غزة بأقل التكاليف، حيث خرجت تلك التكاليف عن السيطرة، فَلَم تَعُد قابلة للحصر، أو لتقدير نِطاقها بِحُكم ارتباط ذلك بعدم قدرة الدولة الصهيونية على تحديد المدى الزمني، لإنهاء عمليتها العسكرية. بالإضافة إلى التكاليف الاقتصادية الهائلة للحرب، والتي تقوم الولايات المتحدة بتحَمُلِها، كان من أهم التكاليف وأكثرها إيلامًا للدولة الصهيونية، هو العدد الكبير من الأسرى، وفقدان أرواح المئات من مواطنيها، سواء من غادر منهم الحياة، أو من ترك منهم “أرض الميعاد” عائدًا إلى وطنه الأصلى أو هاربًا إلى وطن جديد.

ستضع الحرب المجنونة على غزة أوزارها، فهذه هي سُنة الحياة رغم كل الصعاب، ورغم كل الدم الطاهر الذي أُريق، وما زال يراق هناك. وسيذهب نتنياهو غير مأسوف عليه، وربما يضغط بنفسه على زناد مسدسه مُطلِقًا على رأسه النار، إن وَاتَتْهُ شجاعة الإقدام على الانتحار. سينتهي حكم نتنياهو وحلفائه بكل ما يمثلونه من رؤى، تحكمها تهويمات الأساطير العنصرية البغيضة المدفوعة بأوهام القوة، وخرافة نهاية التاريخ.

سيسعى خليفة نتنياهو ،أيًا كان اسمه أو موقعه الحالي، إلى الخروج من فَخِ غزة، حتى يتمكن من ترميم ما أفسده سَلَفَهُ على كل المستويات، في سياق توازن جديد للقوى بالمنطقة، بِحُكم ما سيفرضه واقع ما بعد الحرب من مُعادلات جديدة، في عالمٍ تتبدل أحواله وتحالفات قواه المؤثرة، بأسرع مما يتصوره البعض، وربما يفضي هذا التوازن الجديد إلى إطارٍ عام؛ لإنجاز مَشروعٍ؛ لتسويةٍ ما.

لعل ما تم طرحه “دوليًا”؛ بشأن إطار “حل الدولتين” على هامش محاولات وقف إطلاق النار والهُدَن المتنوعة، هو إشارة مُبَكِرة تُمَهِد الطريق لصياغةٍ عَمَليةٍ؛ للتسوية يتم تبنيها مع بعض التعديلات، على ما هو قائم من تراكيب، آلت إلى أوضاعٍ مُتردية للغاية، انتهت بالانفجار العظيم في 7 أكتوبر. وعلى الرغم من أن إطار “حل الدولتين”، ليس بالأمر الجديد، إلا أن في إعادة طرحه الآن، صراحة شديدة واعتراف واضح، بأن شيئًا لم يتحقق من أحلام مدريد وأوسلو، الأمر الذي يستدعي النظر فيه بشكل مختلف؛ لأجل التوصل إلى آلية جديدة، تُبنَى على ما تغير من مُعادلات. كان هناك طرح “دولى” آخر، يتعلق “بدولة علمانية واحدة” للشعبين، وأظنه طرحًا رومانسيًا، يفتقر إلى الحد الأدنى من الجاهزية على المستويين الثقافي والبنيوى.

ستضع الحرب المجنونة على غزة أوزارها، وستبدأ أعمال إعادة الإعمار، وتسكين المتضررين، وسيستمر الشعب الفلسطيني الصامد في الحياة رغم كل الخسائر، ليبقى السؤال الأهم مطروحًا أمام المقاومة حول إطار التسوية فيما بعد الحرب. ستكون الإجابة مرهونةً بِاستعادة الوحدة الوطنية بين الفصائل الفلسطينية، بعيدًا عن تديين الصراع، مع التأكيد على عدم الفصل النفسي والعضوي بين غزة والضفة الغربية، بالشكل الذي يضمن حسمًا حقيقيًا للملفات الفلسطينية التاريخية المُعَلَقة، كوضع القدس وحق العودة، وما يرتبط بمفهوم سيادة “الدولة”- لا منظومة الحُكم الذاتي- من مقوماتٍ تشمل الحدود والمؤسسات والمقدرات الاقتصادية.

ستقتضي مسألة الوحدة الوطنية من المقاومة، الإجابة على تساؤلٍ نَوعىٍ للاختيار ما بين انضواء مكوناتها الأساسية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها المُمَثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني المعترف به أُمَميًا، أو الاستمرار بسياقاتٍ أخرى، تُكَرِس مزيدًا من الفُرقة والانقسام في ظل مشروعات إقليمية، ترى في استمرار الصراع بلا حسمٍ مُبَرِرًا؛ لتدخلها من أجل تحقيق مصالح، لا شأن مباشر للقضية الفلسطينية بها… ماذا بَعد أن تضع الحرب المجنونة على غزة أوزارها؟