باختصار شديد، نشعر بالعجز، أي عدم القدرة الكافية على مواجهة ما يقف أمامنا من تحديات، لأننا مقيدون ثم مُستعبدون، مُقيدون بفعل الاستبداد المحلي، مُستعبدون بفعل الهيمنة الغربية، نرقد في قفص الاستبداد، ثم قفص الاستبداد نفسه يرقد في قفص الهيمنة. قيد من فوقه قيد، قفص يعلوه قفص، حديد من بعده حديد، الاستبداد يقدم لنا نفسه على أنه الوطنية وأي رفض له يُعتبر خيانةً للوطن، والهيمنة تقدم نفسها لنا على أنها الحداثة وأي رفض لها يكون هو التخلف بعينه. وكلاهما يتبادلان المصالح والمنافع، فالهيمنة تكفل الاستبداد وترعاه، والاستبداد يضمن مصالح الهيمنة ويقوم على خدمتها، ثم الشعوب تدفع فواتير الهيمنة والاستبداد معاً.
لهذا كانت الحركات الوطنية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين تناضل على الجبهتين في وقت واحد ضد الهيمنة وضد الاستبداد سواءً بسواء وبوضوح شديد، لكن هذا النضال التبست عليه الصورة منذ منتصف القرن العشرين، حيث صار الاستبداد فريضة وطنية لبناء دولة الاستقلال التي امتلكت من أدوات وقدرات القمع ما يفوق آلاف المرات ما كانت تمتلكه استبداديات ما قبل الاستقلال، استبداديات ما بعد الاستقلال تحت شعارات الوطنية والقومية وبناء الدولة أعادت تشكيل العقل العام بحيث ينصاع لإرادة السلطة ويفقد إرادته المستقلة وبحيث يخضع – بالمطلق – لمشيئة الحكم دون إبداء أي ملاحظة نقدية، هذه الاستبداديات جعلت من الأغاني الوطنية بديلاً عن تمتع المواطن بقاعدة الحق والحرية والواجب، تم تجويف عمق الإنسان وتجفيف روحه وإذلال عقله وامتهان كرامته وحشوه بالخوف من غيره والشك في نفسه والانقياد للهواجس والعجز عن إدراك الحقائق ومواجهة الوقائع، إنسان في هروب دائم – تحت سطوة القهر – من ذاته ومن واقعه ومن وجوده ومن مصيره.
قبل منتصف القرن العشرين كانت قوى الهيمنة متعددة متنافسة يسعى الوطنيون للإفادة مما بينها من صراعات، لكن بعد ذلك حلت أمريكا محل الجميع، ترأست قوى الهيمنة القديمة دون أن تستبعدهم، أزاحتهم فقط عن الصدارة، فباتت الكلمة العليا لأمريكا لكن مع الاحتفاظ بمواقع وأدوار نسبية لكافة قوى الاستعمار الغربي السابقة عليها، لهذا صارت سبيكة الهيمنة أقوى كما صارت قبضتها أشد، فقد بقيت القوى الاستعمارية القديمة تمارس نفوذها القديم لكن في أشكال جديدة جاءت مع الهيمنة الإمبراطورية لأمريكا على بلادنا وعلى العالم، وقد تعددت أشكال الهيمنة : مجلس الأمن، حق الفيتو، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي.
كثيرون في بلادنا يظنون – عن حسن نية – أن عهود الاستعمار قد انتهت مع تصفية الاستعمار التقليدي بعد الحرب العالمية الثانية، والحقيقة هي أن شكل الاستعمار فقط هو الذي تغير، الاحتلال المباشر أصبحت كلفته أعلى وأغلى من عوائده المادية والأدبية، لقد انتهى عن وعي منهم واستيعاب لتغيرات الزمن، ثم حل محله نمط من الهيمنة الخبيثة تتمكن بها أمريكا والغرب من تطويق العالم بين أيديهم: تحجيماً لحضارة عائدة مثل الصين، واستنزافاً لخطر شرقي قديم مثل روسيا، واحتواءً لقوة شغب إقليمي مثل إيران، وتوظيفاً لمنطقة تعزل أوروبا عن الخطر الشرقي مثل تركيا، وإبقاءً على أول ميراث استعماري للغرب في العالم حيث أمريكا الوسطى والجنوبية، ثم تمزيقاً للعرب بيد العرب.
وكل هؤلاء – باستثناء العرب – يعلمون أن الغرب لا يجازف بمصالحه الكونية ولا يترك شيئاً للمصادفات ولا يتورع عن ارتكاب الموبقات لحماية ما قد أنجزه في القرون الخمسة الأخيرة، حيث صنع من نفسه جنات وفراديس حقيقية تعيش في رغد وسعة وقوة وعلم وهيمنة وسيطرة وقيادة للعالم بصورة لم تحدث في التاريخ من قبل، وواجب الغرب تجاه الغرب هو أن تبقى حضارته قائدةً ومهيمنة، وأن تبقى مصالحه محمية ومرعيةً، ولهذا يلزم أن تكون كلمته نافذةً ومسموعةً، ولأجل كل ذلك يلزمه الانفراد بالقوة المسلحة التي تتفوق على كل من سواها في الشرق والغرب. هذه الواجبات لم تختلف منذ تبلور التفوق الغربي ومعه النعيم والهناء والسعادة الغربية عند مطلع القرن التاسع عشر حيث باتت ثمرات الكون كله تُجبى بحراً وبراً حتى يستمتع بها الإنسان الغربي، دون أدنى تأنيب ضمير أن هذه الثروات جاءت نهباً وغصباً وسلباً من عرق الشعوب التي استضعفها الغرب ثم استعمرها ثم أذلها ثم نهبها وسرقها.
لقد طوق الغرب بلاد الشرق العربي والإسلامي – ضمن تطويقه للكون كله – من وقت مبكر، فقد حصل الفرنسيون على الامتيازات التجارية داخل البلاد التابعة للسلطنة العثمانية منذ القرن السادس عشر وكان هذا أول وأكبر وأخطر اختراق من الداخل، فقد تنافس الأوروبيون جميعاً لتوسيع الامتيازات، حتى باتت دول مهمة مثل مصر وتونس وتركيا ذاتها تحت احتلال اقتصادي ومالي وتجاري فعلي من كافة الأجناس الأوروبية المتعطشة للثروات، لذلك لم يكن مصادفة إفلاس تركيا ثم مصر ثم تونس، ولم يكن مصادفة غزو مصر ثم تونس من الفرنسيين، ولم يكن مصادفة احتلال مصر من الفرنسيين ثم الانجليز، ثم لم يكن اعتباطاً أن سقطت السلطنة ذاتها إلى الأبد بعد سقوط مصر بأقل من خمسة عقود.
لقد جاء الأوروبيون بالشاب الثلاثيني الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب – محمد علي باشا – على رأس أهم بلاد الشرق، جاءوا به رغم أنف السلطان، وساعدوه، فلما تجاوز دوره المرسوم تمت تصفيته، فقد فكر بعقل إمبراطوري ولم يكن مسموحاً لغير الأوروبيين بالتفكير بمقاس إمبراطوري، أرادوه نموذجاً للحداثة الإسلامية فلما بات خطراً على الحداثة الأوروبية انتهى دوره. كذلك ساعدوا حفيده إسماعيل حتى كرر محاولة جده وذهب يؤسس إمبراطورية في إفريقيا فتخلصوا منه بذريعة الديون، رفضوا أن يزاحمهم إسماعيل على الاستعمار في إفريقيا مثلما رفضوا أن يزاحمهم محمد علي باشا على الاستعمار في الشام وجزيرة العرب واليمن والبحر الأحمر. كذلك توافق الاستعمار القديم مع الاستعمار الجديد، بريطانيا مع أمريكا، على غض البصر عن حركة 23 يوليو 1952م وتركها تمر كحدث مصري داخلي لا يجوز لقوى أجنبية التدخل فيه، وتم تبنيها، ومساعدتها في أيامها الأولى، ثم لما بدأت تخرج عن المرسوم لها، فرفضت الاعتراف بإسرائيل، ثم رفضت الأحلاف الغربية، تمت تصفية الطبعة الناصرية منها.
الاستثناء من قانون المساعدة ثم التصفية هو إيران الثورة الإسلامية ثم تركيا أردوغان، تم السماح بالأولى، وتم المجيء بالثاني، وكلاهما من المهارة بحيث كان على وعي بذلك، ثم على إدراك لثمن ذلك، نجح كلاهما في انتزاع دور إقليمي دون تجاوز الخطوط الحمراء التي تجاوزها محمد علي باشا ثم إسماعيل ثم عبد الناصر. الإيرانيون ثم الأتراك لدى كل منهما تراث قديم – كإميراطوريات قديمة في حالة إيران ثم حديثة في حالة تركيا – في اللعب مع الغرب، هذه التراث لم يتوفر مثله للباشا ولا الخديو ولا عبد الناصر، فالباشا وعبد الناصر طارئان على اللعبة الدولية أما إسماعيل فكان من صناعتها.
ثم دخلت إسرائيل، بعد 1948م، على مسار العلاقة بيننا وبين الغرب، اشترط الغرب التصالح مع إسرائيل معياراً للعلاقة به، لا فرق بين تصالح علني أوسري، المهم أن تأمن إسرائيل جانب هذا النظام وتكون على يقين أنه كف خطره عنها وأنه لن يشارك في أي أذى يصيبها، تسامح الغرب وتسامحت إسرائيل مع هوامش من الرفض أو المعارضة اللفظية لها من الأنظمة المأمونة الجانب، على أساس أن هذا الهامش لا يضر إسرائيل، وفي الوقت ذاته يخدم الأنظمة في أعين الشعوب، وتحت هذا الهامش باتت كل الأنظمة العربية والإسلامية – دون استثناء واحد – مأمونة الجانب من طرف إسرائيل بغض النظر عن وجود أو عدم وجود اتفاق سلام وبغض النظر عن اللهجات العنترية التي تتحدث بها الكثير من هذه الأنظمة ضد إسرائيل.
وقد تجلى ذلك بوضوح شديد في القمتين العربية والإسلامية في الرياض بشأن حرب الإبادة الإسرائيلية ضد المقاومة الفلسطينية في غزة، حاولت الأنظمة ارضاء الشعوب دون جدوى لأن الإجرام الإسرائيلي فاق كل التصورات بما جعل من الاستنكار اللفظي والشجب والإدانة مجرد لغو وثرثرة وكلام فارغ لا يستحق من الشعوب أدنى احترام، لقد كشفت القمة العربية الإسلامية بشأن الحرب على غزة هاتين الحقيقتين: حقيقة أن هؤلاء الحكام العرب والمسلمين يضعون شعوبهم في قفص الاستبداد، ثم حقيقة أن هؤلاء الحكام أنفسهم رهائن أزليون في أقفاص الهيمنة الغربية وأن مرجوعهم ليس لفكرهم المستقل وليس مرجوعهم لشعوبهم ولكن مرجوعهم للأسياد المهيمنين عليهم في واشنطن وتوابعها من عواصم حلف الأطلنطي، هؤلاء الحكام العرب والمسلمون يستغنون عن شعوبهم لكن لا استغناء لهم عن الكفلاء المتربعين على العرش في البيت الأبيض، في البنتاجون، في القواعد الأمريكية التي تطوق العالم براً وبحراً وجواً، في حلف الأطلنطي، في صندوق النقد الدولي، في البنك الدولي، هؤلاء الأسياد – وليس شعوب العروبة والإسلام – هم من يضمنون مصائر الحكام من كزابلانكا إلى كراتشي.
في الثلاثين عاماً الأخيرة 1992 – 2023م تم تمزيق العالم العربي، حتى وصل في لحظتنا الحاضرة في خريف 2023م إلى واحدة من أشد لحظاته اضمحلالاً وانحلالاً وتدهوراً، فقد تم إخراج الدول الكبرى من دائرة التأثير مثل الجزائر في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، ثم العراق بعدها بعشر سنوات، ثم سوريا وليبيا واليمن والسودان، وكانت الصومال هي فاتحة الكتاب. إخراج الجزائر أضعف ارتباط المغرب العربي بالمشرق العربي، إخراج العراق زاد من نفوذ إيران، إخراج سوريا زاد من نفوذ تركيا، تمزيق دول الربيع العربي وضع مصر تحت الضغط كي تحافظ على تماسكها القومي ووحدتها الترابية في أقليم تحركت فيه كل الرمال وغاصت فيه كل الأقدام وفشلت فيه كل الحلول وسوف يستغرق عدة عقود قادمة حتى تستبين له ملامح مستقرة من جديد. بات العرب فراغاً كبيراً بين قوى الجذب الأربعة: إيران، إسرائيل، تركيا، أثيوبيا.
إيران جربت دور القيادة لكن يظل حاجز المذهب واللغة مانعين كبيرين ليسا في صالحها، وجربت تركيا أردوغان – بتشجيع من الغرب – دور القيادة لكن حاجز اللغة والحزازات المريرة التي تركها الميراث العثماني مانعين كبيرين، تم الدفع بالوحدات السياسية الناشئة ذات الفوائض المالية لملء الفراغ القيادي لكن المال وحده لا يكفي في غياب العمق البشري والحضاري والتاريخي، حاولت إسرائيل في السنوات الأخيرة التصدر للقيادة بالتحالف مع وحدات الفوائض المالية لكن حرب غزة 7 أكتوبر 2023م قطعت عليها الطريق. ثم دخلت المنطقة في فراغ قيادي استدعت حضور البوارج وحاملات الطائرات الغربية في مياه المتوسط وحول الإقليم من كل جانب وفي داخله من خلال القواعد العسكرية الأمريكية والأوروبية.
الغرب لم يأت ليحارب. الغرب جاء لحراسة الفراغ القيادي في الإقليم، وسوف يتكفل هذا الفراغ بمزيد من التمزيق. التمزيق يزعجنا، لكنه لا يزعج الغرب، يستطيع الغرب تفادي آثاره الجانبية عليهم مثل الإرهاب والهجرة وتدفق اللاجئين، لكن هذا التمزق ذاته عندما يكتمل يسمح للغرب بإعادة هندسة وتشكيل الإقليم بما يضمن مصالحه وبما يكفل أمان وازدهار إسرائيل، هندسة دون ممانعة، وتشكيل دون مقاومة من أي قوة ذاتية متماسكة في العالم العربي.
حاول الغرب توظيف ثورات الربيع العربي في استبعاد حلفاء الغرب الأقدمين الذين فقدوا صلاحيتهم وباتوا عبئاً على الغرب في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، كما حاولوا توظيف ثورات الربيع العربي في تجريب حلفائهم الجدد من ليبراليين وإسلاميين، لكن فشلت المحاولة، ولم يحصد الغرب غير أنه باع حلفاءه الأقدمين الذين خدموه ما لايقل عن ثلاثين عاماً، ثم باع حلفاءه الجدد، ثم ترك المنطقة تحت رحمة إما ديكتاتوريات جديدة وإما حكومات هشة وإما انقسام واقتتال وإما فوضى وضياع. هذه هي خلاصة الإدار الغربية لشؤون الإقليم في العقود الثلاثة الأخيرة التي بدأت من سفوط الاتحاد السوفيتي ديسمبر 1991م حتى وقت كتابة هذه السطور، حيث لا يتورع الغرب عن مشاركة إسرائيل بالسلاح والمال والدبلوماسية والإعلام في حربها لإبادة المقاومة الفلسطينية في غزة وتهجير أهلها وإخراجهم ليكونوا من جملة اللاجئين الذين يذهبون ولا يعودون. ومثلما اكتشفت مصر في حرب 6 أكتوبر 1973م أنها تحارب أمريكا وليس إسرائيل، كذلك نكتشف أن المقاومة الفلسطينية تحارب أمريكا وليس إسرائيل، في المرتين أمريكا هي من توجه سلاحها في صدورنا، هي من يصب الهلاك فوق رؤوسنا، هي من يخيرنا بين الفناء أو الاستسلام على مذلة، أمريكا هي من ترى مكاننا المناسب تحت الشمس إنما هو في ركن ما داخل قفص هيمنتها.
قبل مائة عام، كانت مصر تشق طريقها، نحو التحرر من القفصين معاً، قفص الاستبداد، ثم قفص الهيمنة، كانت أعظم ثورة، أعقبها أفضل دستور، أعقبها أنزه انتخابات، أعقبها أول برلمان يمثل الشعب دون تزوير، أعقبها أول حكومة تحمل اسم وازارة الشعب، جاء سعد زغلول رئيساً للوزراء – ليخوض بالاشتباك العملي – معركة الأمة ضد الاستبداد وضد الهيمنة، تشكلت الوزراة في يناير 1924م، ثم سقطت في نوفمبر 1924م، دخل في صراع مع الملك فانتصر، انتصر على الملك بقوة الشعب. ثم دخل في صراع مع الانجليز فكانت القوة لصالحهم فلم يكن له من خيار غير الاستقالة، سقطت وزارة الشعب تحت مكيدة الاستبداد وغطرسة الهيمنة.
وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.