“إسرائيل بلد فريد في التاريخ، لا يستطيع تحمل هزيمة واحدة كبيرة. الهزيمة تعني انتهاء المشروع، إذا ما نزع عنها قدرة الردع وإخافة ما حولها”.

هكذا تحدث الأستاذ “محمد حسنين هيكل” في حوار متلفز قبل فترة وجيزة من رحيله.

ما حدث في السابع من أكتوبر (2023)، بدا نذيرا خطيرا بتقويض.

لهذا السبب بالذات هرع البيت الأبيض؛ لإنقاذ إسرائيل، أرسل إلى شرق المتوسط حاملتي طائرات، وبوارج حربية، وألفي جندي “مارينز”؛ لردع أي طرف إقليمي، قد يستغل الوضع الإسرائيلي المهزوز، وشارك الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بنفسه في اجتماع لمجلس الحرب الإسرائيلي بتل أبيب.

إعادة الهيبة إلى الجيش الإسرائيلي تصدرت أهداف الإدارة الأمريكية، حتى يمكنه، أن يلعب دوره المعتاد في إخافة من حوله.

كما وفرت حماية كامله له؛ لارتكاب كل جرائم الحرب، دون خشية حساب.

بأثر الصور المأساوية لغزة المدمرة، تغيرت البيئة الدولية، وعمت العواصم والمدن الكبرى تظاهرات بمئات الألوف، تنتصر للفلسطينيين.

خسرت إسرائيل الحرب استراتيجيا، وأخلاقيا واكتسبت القضية الفلسطينية زخما لا مثيل له على مدى (75) عاما، من الصراع العربي الإسرائيلي.

هذا ليس نهاية المطاف.

فعل الإجهاض رد فعل متوقع للحقائق المستجدة.

ما البوصلة التي يجب أن تحكم مواقفنا، حتى لا يحدث ذلك؟

إنها اعتبارات الأمن القومي، والقضية الفلسطينية في صلبها.

بأية نظرة على ما كتبه “هيكل” قبل زيارة “أنور السادات” إلى الكنيست وبعدها، قبل حرب أكتوبر (1973) وبعدها، تلمح دون عناء، أن قضيته الأولى هي الأمن القومي.

“إذا لم نتفق على موضوع الأمن القومي، فإننا سنظل حيارى لا نعرف، أين الطريق، ولا كيف نمضي عليه؟”.

“الأمن القومي لأي بلد في الدنيا، تحدده حقائق الجغرافيا وتراكمات التاريخ”.

“هناك من يتحدث، ويفتي في الأمن القومي، وكأنه قضية مغلقة، لا يمكن لأحد أن يقترب منه”.

“الأمن القومي لأي بلد هو الأمن القومي لكل إنسان، ولكل قرية ومدينة، ولكل وطن وإقليم”.

“الأمن القومي هو الحرص على حياة سليمة وصحية، حياة مستنيرة ومتعلمة ومتفهمة، إنتاج وفير يمكن لحياة كريمة، وطن قوي له وسائله في إنتاج مقومات حياته ومستقبلة”.

باتساع نظرته إلى الأمن القومي، حاول أن يلغي أي كهنوت، وأن يدخله في اهتمامات كل مواطن عادي، حتى يصير ممكنا التوافق عليه بلا أهواء أو تقلبات.

لذلك تحدث مطولا على شاشات الفضائيات في قضية، لم يعهد الحديث العام حولها.

الأمن القومي يشمل الحرب والسلام وإدارة العلاقات الدولية، وهذه مسألة مصير ومستقبل.

“إن دولة تقيم وجودها، وتؤكد أمنها بالتضاد مع الجغرافيا والتاريخ من الطبيعي، أن تستحوذ أدوات القوة والعمل السري صدارة أولوياتها، وهي هنا الجيش الإسرائيلي، والموساد وجهاز الأمن الداخلي”ـ كما قال وأكد.

بتلخيص لجوهر رؤيته للأمن القومي المصري ونقاط تركيزه، فهناك محوران رئيسيان ـ كما كتب موضحا وشارحا.

أولهما:- جنوبي هدفه ضمان سلامة نهر النيل، وهو عصب الحياة في مصر.

وثانيهما:-  شمالي شرقي وبالتخصيص فلسطين، لأنها الجسر البري الذي يصل إفريقيا وآسيا في شبه برزخ بين بحرين، فهذا الجسر البري كان طريق مصر باستمرار إلى المشرق، حيث تعيش بقية أمتها العربية، وكان على مر العصورـ مدخلها ومخرجهاـ أي بابها الحضاري والأمني والاقتصادي.

“لقد عرضنا قضية فلسطين خطأ على الشعب المصري، حين صورناها له وكأنها تضامن مع شعب شقيق، فتلك ليست القضية الحقيقية، وإنما كانت القضية الحقيقية، وصميم الموضوع هو الأمن المصري”.

وقد استعادت دراسة إسرائيلية عن ظاهرة “هيكل”، ودوره في الصراع العربي- الإسرائيلي، ما كتبه قبل حرب (١٩٦٧) مباشرة:

“ليست هي مسألة خليج العقبة إذن، ولكنها مسألة أكبر. هي فلسفة الأمن الإسرائيلي كله.. الفلسفة التي ارتكز عليها الوجود الإسرائيلي كله منذ نشأ، ويرتكز عليها في المستقبل.

من هنا أقول: إسرائيل لا بد لها أن تلجأ إلى السلاح.

ومن هنا أقول: إنه لا مفر من صدام مسلح مع العدو الإسرائيلي”.

حسب نفس الدراسة فهو: “من بلور الرؤية العربية تجاه إسرائيل وصاغ الخطاب العربي، الذي امتد أثره حتى الآن، وأكسبه عمقا ثقافيا ومعرفيا”.

تلك الدراسة كتبها البروفسير “يو حاي بر سيلاع” المتخصص في الشئون العربية والإفريقية.

وقد نشرت بدورية “أمجو” البحثية، التي ظهرت في أغسطس (٢٠٠٣) بعد احتلال العراق.

تولى ترجمتها الدكتور “محمد عبود” أستاذ العبرية في جامعة عين شمس بمقدمة لافتة: “استئذان في الترجمة”، وأرسلت نسخة من الأصل العبري إلى الأستاذ “هيكل”.

تبنت الدراسة الإسرائيلية سؤالا افتراضيا: “ماذا لو هزمت إسرائيل؟”.

أخذت سؤالها من كتاب أمريكي، نشأت فكرته حين التقى في نيويورك ثلاثة صحفيين من مجلة “النيوزويك” على غداء عمل هم: “ريتشارد تشيزنوف”، و”إدوارد كلاين”، و”روبرت ليتل”، الذين غطوا أحداث الحرب من الجانب الإسرائيلي.

رغم الطابع التخيلي لما جاء في هذا الكتاب، الذي صدر في فبراير (١٩٦٩)، إلا أنه اعتمد بالأساس على أحداث واقعية.

وقد كان هدفه المباشر التأثير على صانع القرار الأمريكي؛ طلبا لمزيد من الدعم لإسرائيل، رغم كل ما حازته من سلاح ومال، وما حصدته من نتائج عسكرية، فاقت كل توقع في حرب (١٩٦٧).

إسرائيل دائما مهددة، وأمريكا دائما مقصرة، والعرب ينتظرون الفرصة للانتقام.

هذه هي الرؤية الأساسية في الكتاب الأمريكي، كما في الدراسة الإسرائيلية عن “محمد حسنين هيكل”.

وفق ما نقلته تلك الدراسة عن الكتاب الأمريكي، فإن “سوريا صبت الزيت على نيران الأزمة الإقليمية، ومحمد حسنين هيكل أضفى على الأحداث عمقا ثقافيا وفكريا وإقناعيا، وأحمد سعيد مذيع راديو صوت العرب ساهم في إثارة الجمهور العربي، وأحمد الشقيري ـ رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في ذلك الوقت ـ عبّر دون مواربة عما جال في خواطر الآخرين”.

في الكلام عن الصراع العربي- الإسرائيلي ودور “هيكل” نزعتان متناقضتان ـ إسرائيل مهددة، وهزيمتها غير ممكنة.

“أثبتت حرب أكتوبر، فيما بعد، للجميع أنه حتى في ظل وجود شروط التطور المثلى في كفة الميزان العربية، فإنه ليس بالإمكان هزيمة إسرائيل؛ من جراء الفجوات الفاصلة بين إسرائيل، وجيرانها التي تواصل الاتساع والتضخم مع مرور السنين”.

هكذا بالنص نزعت الدراسة الإسرائيلية عن العرب أية فرصة لأي نصر، لا في الماضي ولا المستقبل، على عكس ما روّج له “هيكل” من أن النصر ممكن.

لا يخفي الباحث الأكاديمي الإسرائيلي إعجابه البالغ بقدراته الاستثنائية، فهو “صانع سياسات من طراز خاص” و”رئيس تحرير أسطوري”.. وقد “كانت الأهرام تحت قيادته أهم جريدة في العالم العربي، والوحيدة التي يتابعها العالم كله باهتمام بالغ”.

كما أنه “قصة نجاح ماثلة في الأذهان”، و”علاقته مع جمال عبد الناصر، تجاوزت بكثير مجرد صداقة وطيدة بين صحفي، وزعيم سياسي”، “ومهارته المهنية الهائلة في فن الكتابة الصحفية، أكسبته قوة استثنائية لدى الجمهور العربي، فكل ما يكتبه، كأنما قاله عبد الناصر بنفسه”.

“على مدار سنوات طويلة عكفت الاستخبارات الإسرائيلية، وعدد من أجهزة الاستخبارات الغربية على ترجمة مقالاته؛ لوضعها على طاولة صانع القرار صبيحة كل جمعة، فور خروج الجريدة إلى منافذ التوزيع”.

بحسب ما رصدته الدراسة، وهي تتبع أرشيفه، أنه كتب نهاية مارس (١٩٤٨) مقالا في مجلة “آخر ساعة” تضمن العبارات التالية:

“عندما سافرت إلى فلسطين، ظننت شأن الكثيرين من إخواني العرب، أنني سأجد هناك يهودا بائسين ظهورهم محنية من فرط الرعب والذعر الشديدين.

ظننت أنهم سيهربون ويفرون بجلودهم، فور أن يبدأ القتال، واكتشفت، أنني كنت مخطئا.

اليهود الذين رأيتهم في ميدان القتال، حاربوا حتى آخر قطرة في دمائهم، واستخدموا حيلا ذكية ورفضوا الاستسلام، وعلى كل الجيوش العربية القادمة إلى فلسطين، أن تأخذ في الاعتبار ما كتبت في السطور السابقة.

المعركة من أجل تحرير أراضينا المقدسة، لن تكون سهلة…”.

كما رصدت مقالا آخر في (٢٠) أكتوبر (١٩٦٧) بعد شهور قليلة من الهزيمة: “لمزايا الجندي الإسرائيلي قيمة حاسمة يجدر التنبه لها”.

“كان من بين الجنود الإسرائيليين أساتذة جامعات وأطباء ومهندسون استجابوا؛ للتعبئة العامة مترابطون، ويعرفون الطريق إلى وحداتهم”.

“كان الهدف واضحا في عيون جنود العدو، وهو وجود إسرائيل من عدمه.. إننا نواجه عدوا عصريا متعلما، ولا يوجد حل آخر أمام الطرف العربي؛ لمواصلة الصراع الشامل سوى أن يصبح هو أيضا متعلما وعصريا”.

“العدو الإسرائيلي، على الرغم من قدرته على استغلال ما يتاح له من إمكانيات، فإنه لا يلقي الرعب في النفوس وقدراته لا تخرج عن الإطار العادي. وإلحاق الهزيمة الكاملة به أمر ممكن”.

كانت تلك الكتابات باتساع نظرتها للحقائق لافتة للباحثين الإسرائيليين.

بمزيج من الإعجاب البالغ والنقد اللاذع تابع الأكاديمي الإسرائيلي، تعقب سيرة حياته وقصته مع القضية الفلسطينية.

“هو الرجل الذي دعا الجمهور العربي عام (١٩٦٤) إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية مصيرية وفق النقاط التالية:

أ- إسرائيل تمثل قاعدة عدوانية في خدمة الإمبريالية الغربية.

ب- وهي العقبة الكؤود في وجه الوحدة العربية.

جـ – ولديها مطامع في التوسع والتمدد على حساب القوى العربية والإنسان العربي”.

..وعندما بدأت، تخرج إلى العلن بعد عامين على حرب (١٩٦٧) دعوات لمفاوضات تسوية؛ للصراع تقدمت إسرائيل بمطلبها الذي تصفه دائما بالطبيعي: “إقرار حدود آمنة ومعترف بها للحيلولةن دون تكرار ما تعرضت له من تهديدات إبان حرب ١٩٦٧”.

نسبت الدراسة إلى “هيكل” صياغته للموقف المصري على النحو التالي: “الحدود الآمنة والمعترف بها لإسرائيل، في رأينا هي كنيس يهودي واحد في تل أبيب، وعشرة أمتار من حوله”.

كشأن الأغلبية الساحقة من الدراسات الإسرائيلية هناك ادعاء، لا يوجد نص واحد يؤكده، من أن “عبد الناصر” دعا لإبادة إسرائيل و”هيكل” مضى خلفه.

في الحرب على غزة، أفلتت الادعاءات والأكاذيب من أي قيد مهني أو أخلاقي.

كان ذلك داعيا إضافيا إلى تقويض صورتها، وإكساب القضية الفلسطينية زخمها الجديد.

كل ذلك يدخل في حسابات الأمن القومي، التي لا يصح بأي حال تجاهلها، أو التواطؤ عليها.