أثار موقف حزب الله من الحرب الدائرة في غزة جدلا واسعا، خاصة أن كثيرين اعتبروا، أن الحزب قد تخلى عن شعاره “وحدة الساحات” الذي يعني، أن أي مواجهة ستخوضها فصائل المقاومة في الساحة الفلسطينية، فإن حزب الله سيخوضها معه في حين، وجدنا أن الحزب لم يدخل في مواجهة شاملة مع إسرائيل، وظل حريصا على “المواجهة المحسوبة” في جنوب لبنان بصورة، لا تؤدي حتى اللحظة إلى اندلاع مواجهة شاملة مع الدولة العبرية.

والحقيقة إن السؤال الذي يطرح نفسه هل تغير حزب الله، وتخلى عن مشروع المقاومة؟ أم أنه بالفعل تغير، دون أن يعني ذلك تخليه بالكامل عن مشروع المقاومة؟ أو بمعنى آخر، فإن حزب الله لم يعد هو حزب “المقاومة النقية”، كما كان عليه الحال في عام 2000 حين خاض، وقاد مقاومة بطولية؛ من أجل تحرير الجنوب اللبناني وانتصر؛ لأنه خاض معركة تحرير أرض محتلة عرفها العالم العربي في أكثر من ساحة، ولم يكن قد تحول بعد إلى مشروع سياسي وأيديولوجي مرتبط بالحسابات الاستراتيجية الإيرانية وبالطموحات الداخلية.

والحقيقة أن مواجهة حزب الله لإسرائيل في 2006 بكل ما تركته من صور صمود في مقاومة الجبروت الإسرائيلي، فإنها أيضا خلفت مآسٍ كبرى على لبنان واللبنانيين؛ جراء الغارات والاعتداءات الإسرائيلية، ويمكن القول، إن هذه المعركة مثلت نقطة فاصلة بين الصورة التي كان عليها حزب الله، أثناء معركته الوطنية الجامعة؛ لتحرير الجنوب في عام 2000، وبين أسلوب وحسابات مواجهة إسرائيل في الوقت الحالي.

ورغم أن حزب الله يعتبر جزءا من الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، وتحالفه الوثيق معها واضح ومعلن، إلا إنه في نفس الوقت أخذ بعين الاعتبار الواقع اللبناني الذي يرى بمختلف طوائفه وأحزابه، أن البلد غير مؤهل لخوض حرب ضد إسرائيل يُدمر فيها، ما تبقى من مؤسساته شبه المنهارة، ويعمق من أزماته الاقتصادية.

فهناك تيار يعتد به داخل البيئة الشيعية الحاضنة لحزب الله، لا ترغب في الدخول في حرب مع إسرائيل، تدمر فيها قرى الجنوب، وتهدم الضاحية الجنوبية، ونضيف آلاف الشهداء المدنيين إلى مسلسل الشهداء في فلسطين، كما أن الغالبية العظمى من أبناء الطوائف الأخرى، لا يريدون حربا مع إسرائيل، كما أن إيران لا زالت في الوقت الحالي غير راغبة في حرب شاملة مع الدولة العبرية، كل هذا يعرفه حزب الله بما يعني، إنه أمر إيجابي، أن يأخذ بعين الاعتبار واقع بيئته اللبنانية، لأنه لم يفعل ذلك في 2006، ثم تورط في الصراع السياسي الداخلي في لبنان وسوريا، وهي كلها أمور أفقدته جانبا من رصيده.

يقينا، أن يأخذ حزب الله بعين الاعتبار رفض أغلب اللبنانيين للدخول حاليا في حرب مع إسرائيل، ستدمر ما تبقى من لبنان يعتبر أمر إيجابي يحسب للحزب، خاصة أن البعض كان سيهاجمه بقسوة أشد، لو فعل العكس ودخل في مواجهة شاملة مع إسرائيل، فكانت ستنهال عليه السهام من كل جانب بالقول، إنه ورط لبنان ودمره في حرب، لا يرى الغالبية العظمى من اللبنانيين، أنهم مضطرون مثل باقي الدول العربية للدخول فيها.

أن يضع حزب الله حساباته الداخلية والإقليمية في عين الاعتبار أمر إيجابي، صحيح إنه يفعل عكس ما روجه من قبل، بأنها حركة مقاومة؛ من أجل تحرير القدس والمسجد الأقصى، إلا أن هذا التحول الذي أصابه سبق، وعرفته النظم العربية التي عرفت بعد ذلك بالمعتدلة، حيث كان في السابق غير مرحب، بأن تأخذ بعين الاعتبار واقعها وحسابتها الداخلية في مواجهة اسرائيل، على اعتبار، أن الصراع معها يجب أن تشارك فيه الأمة العربية كلها، لأنه صراع “وجود” يستهدف الأمة كلها، وأن أي تخاذل عن هذه المواجهة يعتبر تخليا عن القضية الفلسطينية، وارتماء في أحضان الاستعمار والصهيونية.

صحيح أن هذا المشهد تغير على مستوى الدول العربية التي انتقلت نحو الاعتدال عقب حرب 73، ثم توقيع مصر على اتفاق سلام منفرد مع إسرائيل، ونجاحها في استرداد أراضيها المحتلة في سيناء، وتكريس مفهوم الحرب الوطنية لكل دولة؛ من أجل استرداد أرضها المحتلة، ولكن بقي الأمر مختلفا بالنسبة للتنظيمات العقائدية مثل، حزب الله والتنظيمات الشيعية في العراق وجماعة الحوثي وغيرهم، حيث ظلت قضية تحرير فلسطين حاضرة بقوة في الخطاب المعلن لهذه التيارات، وجرى التأكيد على وحدة ساحات المقاومة، وثبت في الواقع العملي، أن هناك حسابات لكل تنظيم عقائدي، ولكل دولة تجعل من الصعب للغاية، أن تتورط أي منها في حرب مع إسرائيل؛ من أجل تضامن عقائدي أو سياسي بعيدا عن الحسابات الداخلية لكل ساحة.

إن شعار وحدة ساحات المقاومة الذي رفعه حزب الله ثبت بالدليل العملي، أنه ليس واحدا، وإن حسابات كل ساحة مختلفة عن الأخرى، وأن من المهم أن يأخذ بعين الاعتبار مصالح كل شعب وتقديراته، فالغالبية العظمي من أبناء الشعوب العربية ترغب في دعم فلسطين، حتى النهاية اقتصاديا وسياسيا وقانونيا، ولكنها لا ترغب في الدخول في حرب تدفع ثمنها، خاصة أن كثيرا منها ليس له أرض محتلة، أو تحررت بفعل معاهدات السلام (مصر والأردن)، أو تحررت بقوة السلاح مثل جنوب لبنان.

حسابات حزب الله هذه المرة ليست خاطئة، والاستنزاف الذي يمارسه في مواجهة الجيش الإسرائيلي، ويدفع ثمنه كل يوم شهداء من عناصره، ومن السكان المدنيين يحسب له أيضا، لأنه أبقى الجيش الإسرائيلي في الجنوب، ومنعه من الذهاب إلى غزة، وفي نفس الوقت، لم يورط لبنان حتى الآن في حرب شاملة مدمرة.

سيبقى الخطر الحقيقي في وقوع خطأ غير متعمد في الحسابات، يؤدي إلى الانزلاق نحو مواجهة شاملة، لم يقررها لا حزب الله ولا إسرائيل.