من الناحية النظرية فقد ساهم جهد الحقوقيين الدوليين في أعقاب الحرب العالمية الثانية في صناعة اتفاقيات جنيف الأربعة، وذلك بغرض أن تكون هناك بعض القواعد الأخلاقية أو الإنسانية، يجب أن تسود بين الأطراف المتحاربة، بما يضمن بعض السبل الإنسانية في الصراعات، وقد نتج عن ذلك  اتفاقية جنيف الأولى؛ لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان، واتفاقية جنيف؛ لتحسين حال جرحى ومرضى وغرقى القوات المسلحة في البحار، واتفاقية جنيف؛ بشأن معاملة أسرى الحرب، واتفاقية جنيف؛ بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب.

وإذ أن المفهوم الأساس الذي تنبني عليه اتفاقيات جنيف، مفهوم يرتبط باحترام حياة الفرد والحفاظ على كرامته، فلجميع من يعاني ويلات الحرب الحق في المساعدة، والرعاية من غير تمييز، في حين تؤكد الاتفاقيات على ضرورة تعزيز دور البعثات الطبية، إذ يتعين حماية واحترام الموظفين الطبيين، والوحدات الطبية، ووسائل نقلهم في جميع الظروف، وهذا شرط لا بد منه؛ لتمكين هذه الوحدات من جمع الجرحى والمرضى، وتقديم الرعاية لهم. ثم إن المبادئ التي تنبني عليها هذه القواعد قديمة قدم النزاعات المسلحة نفسها.

وبصيغة أكثر مقاربة، فقد حظرت المادة 3 من اتفاقية جنيف الثالثة “اعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب” ضد الأشخاص “الذي لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية”، كما وتنص المادة 34 من اتفاقية جنيف الرابعة على وجه التحديد، على أن “أخذ الرهائن محظور”، بينما تصفه المادة 147، بأنه “انتهاك جسيم” للاتفاقية، وكذلك ينص نظام روما الأساسي، على أن “استغلال وجود مدني أو أي شخص آخر محمي؛ لجعل نقاط أو مناطق أو قوات عسكرية معينة في مأمن من العمليات العسكرية”، يعد جريمة حرب.

ولعل السؤال الأقرب تناقضا مع ما سبق، هو ما تفعله القوات الإسرائيلية قبل المدنيين، فمنذ أيام قامت بضرب مدرسة الفاخورة التابعة للأمم المتحدة، مما أسفر عن استشهاد وإصابة، ما يقارب مائتي مدني، لم يشاركوا في الحرب، وذلك بعد أيام قليلة من ضربها لمستشفى واقتحامه، بل احتلالها لمستشفى آخر، واحتجاز الطاقم الطبي، والاعتداء على المرضى والمصابين بها، فهل في ذلك، ما يتفق مع أي نص قانوني مما سبق بيانه، أم أن تلك النصوص لا تحكم تلك النزاعات بحسب، إن إسرائيل الربيبة للولايات المتحدة الأمريكية،  والعديد من الدول الغربية، وقد اكتفت الدول العربية بالشجب والاستنكار، والإدانة في حين أن هناك بعض من الدول الأجنبية قد تقدمت بطلب إلى المحكمة الجنائية الدولية، حيث طلبت خمس دول موقِّعة على معاهدة إنشاء «المحكمة الجنائية الدولية»؛ إجراء تحقيق بشأن «الوضع في دولة فلسطين»، وفق ما أعلن المدّعي العام للمحكمة كريم خان، مؤكداً أن مكتبه كان قد فتح تحقيقاً في الوضع هناك، وهذه الدول الخمس هي جنوب إفريقيا، بوليفيا، جيبوتي، جزر القمر، وبنجلاديش. فهل سيحرك ذلك التحرك ساكناً داخل أروقة المحكمة الجنائية الدولية، أو يغير لون المياه الراكدة على السطح الدولي بخصوص الميل إلى الجانب الإسرائيلي في تصرفاته وأفعاله الغير إنسانية؟.

وعلى الجانب العربي، نجد اتفاقية الدفاع العربي المشترك، وهذه المعاهدة التي تم توقيعها في 13 إبريل عام 1950، وانضمت إليها جميع البلدان العربية التي استقلت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان من المفترض وفقا للمعاهدة التي استمر انضمام بقية الدول العربية لها تباعا، على مدار السنوات التالية، وكان آخرها دولة الإمارات العربية المتحدة التي انضمت في 27 فبراير سنة 1978، أنه «فى حال حدوث أي اعتداء على بلد عربى فجميع الدول العربية ملتزمة بمساعدة هذا البلد بكل الوسائل، بما فيها الوسائل العسكرية”، وقد سبق تفعيل الاتفاقية خلال حرب أكتوبر عام 1973، عن طريق مشاركة قوات عربية لمصر وسوريا، بطرق متعددة، مثل المشاركة بالمعدات الفنية، والقوات والأموال، بالإضافة لقرار وقف إمداد الدول المتعاونة مع إسرائيل بالبترول.

وتدور معظم مواد اتفاقية الدفاع العربى المشترك حول توحيد خطط الدول المنضمة؛ لمواجهة أي «اعتداء» يجرى عليها، واتخاذ التدابير الدفاعية لذلك. وتتضمن تشكيل لجنة عسكرية مهمتها إعداد الخطط العسكرية؛ لمواجهة جميع الأخطار المتوقعة، أو أي اعتداء مسلح، يمكن أن يقع على دولة، أو أكثر من الدول الموقعة على الاتفاقية أو على قواتها، وتستند في إعداد هذه الخطط على الأسس التي يقررها مجلس الدفاع المشترك، مع تحديد القاهرة مقرا للجنة العسكرية الدائمة، مع إمكانية نقل الاجتماعات في أي مكان آخر تعينه، وتنتخب اللجنة رئيسها من بين أعضائها لمدة عامين، ويمكن تجديد انتخابه.

ولكن من الناحية الواقعية لا أجد أي صدى ملموس نحو تفعيل نصوص هذه الاتفاقية، وكأنها قد تم عقدها بين دول مختلفة كيانات غير الموجودة حاليا، بما يعني عدم السعي أو ضمان تطبيقها أو نفاذ أي نص منها، حتى وإن كانت مصر قد وقعت معاهدة السلام مع الكيان الإسرائيلي، والذي فيه بناء على رغبة الجانب الإسرئيلي نصاً، يقتضي أو يتفق مع ما جاء بالمادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة، والذي ينص على أنه فى حالة وجود تعارض بين التزامات أى دولة عضو بموجب هذا الميثاق، وبين التزاماتها بموجب أى اتفاقية دولية أخرى، فإن التزاماتها بموجب الميثاق هى التى تسود. وهو النص الذي يضمن علو اتفاقية السلام على اتفاقية الدفاع العربي المشترك من الناحية النصية، ولكن هل ذلك يخرج باقي الدول العربية التي وقعت على اتفاقية الدفاع العربي المشترك من التزماتها الواردة بهذه الاتفاقية؟ أم أن الأمر يخرج عن تلك الصياغات النصية، وتحكمه السياسات العالمية، أو تلك الدول الكبرى التي تتحكم في السياسات العالمية، وتملي رغباتها وإرادتها على المجتمعات العربية بصورة، باتت واضحة للعيان، وهو ما يعني أننا نتحرك في فلك لا نملك دفته، ولا نستطيع تفعيل إرادة عربية حرة تجاه هذا الغزو الذي وصل لمرحلة الإبادة البشرية، والحرب التي لا تبقي بشرا ولا حجرا، ولا تعترف بأي قيمة لأي اتفاقيات دولية أو إنسانية، ولا تحكمها سوى الرغبة الإسرائيليلة في تصفية قطاع غزة، وإخراج أهله منه، وهو ما يعني حرفا التهجير القسري لأصحاب الأرض. أم إننا لم يعد في جعبتنا أي سبيل، سوى انتظار حلول السماء، أو ما يجد من حلول بيد غيرنا وفق مصالحهم؛ للتحكم أكثر في سياستنا ومصالحنا.