معركة طوفان الأقصى التي بدأتها حماس في السابع من أكتوبر؛ ردا علي العدوان الإسرائيلي المستمر على البشر، والأرض والمقدسات، ليست معركة محدودة أو مؤقتة، وإنما تمتد تداعياتها إلى مجالات عدة ومستويات مختلفة. يصل بها البعض في تأثيرها إلى أنها ستعيد تشكيل المنطقة برمتها، داخل بعض البلدان المتأثرة مباشرة بها كمصر والأردن ولبنان، وعلى مستوى التحالفات فيها، ووضع القضية الفلسطينية… إلخ.

العدوان على الفلسطينيين في غزة والضفة، تداخلت أوراقه مع الحرب في أوكرانيا، وموقع إيران في الإقليم، وخطورة المشروع الصهيوني، وفائض توحشه على مجمل المنطقة، وتوزيع خرائط الممرات الاستراتيجية وخطوط الطاقة فيها، والتنافس على قيادة المنطقة، وموقع كل هذا من التنافس الدولي بين روسيا والصين وأمريكا، وإعادة هيكلة القوة في النظام الدولي.

يضاف إلى ما سبق: دورة التطرف المتوقعة في المنطقة التي تعني، أن كل تحول كبير تتعرض فيه للانكشاف، قد يعقبه ظهور تنظيمات متطرفة، وهو أمر بدأ مع صعود تنظيم القاعدة في 2001، ثم نسخة أشد شراسة منه في داعش إثر إخفاق الانتفاضات العربية، وتصاعد الثورة المضادة، ومع حرب غزة، فإن الأجواء مهيئة؛ لبروز نمط جديد من تنظيمات التطرف.. سيكون علينا التساؤل حول ملامح هذا النمط، ومدى ارتباطه بما سبقه، ولا يمكن فصل هذا النقاش عن مستقبل العنف الاجتماعي المؤجل في المنطقة. التوحش المرئي الذي تمارسه إسرائيل، ويتم بثه على الهواء مباشرة، سينعكس بدرجات مختلفة على تزايد العنف الاجتماعي العام في المنطقة، بسبب الاحساس العام بالضعف، وعدم القدرة على ردع إسرائيل. فالناس يُخرِجون عجزهم في عنف اجتماعي على من يلونهم مباشرة، إذا فشلوا في ردع البعيد عنهم.

هذه رشقة أولى من قائمة الموضوعات التي تثيرها طوفان الأقصى، والتي يمكن أن تطول وتتسع، وبرغم أهميتها، إلا أن قطاعا من النخبة المصرية- للأسف- لا يزال عالقا في الموقف من حماس، هل يجب تأييدها باعتبارها حركة مقاومة بغض النظر عن الاختلاف مع أيديولوجيتها وطبيعة علاقتها بتنظيم الإخوان، أم يجب إدانتها ويحسن تصفيتها، أو على أقل تقدير- كما يتردد في بعض دوائر الحكم- “فعلى نفسها جنت براقش”- فهي من استدعت توحش إسرائيل، لذا فيجب أن تترك؛ لتتلقى مصيرها، وتنال عقابها من الكيان الصهيوني، حتى لو امتد ذلك إلى ال ٢ مليون، والثلاثمائة ألف من سكان غزة. تناسى هؤلاء وأولئك، أن من أهم ما كشفته هذه الحرب، أن اسرائيل كانت ولا تزال تمثل تهديدا مباشرا للأمن القومي المصري، وأن فائض ما تملكه من توحش يمكن أن يفيض على مجمل المنطقة كلها، وفي مقدمتها دول الجوار، وأن لا أحد بمعزل عنه أو محصن ضده.

الكيان الصهيوني، بات تهديدا لأمننا القومي من مداخل جديدة، تضاف إلى القديم منه. يمكن أن يحل مشكلة الاحتلال على حسابنا. الممرات الاستراتيجية وخطوط الطاقة ستمر عبره، وهو مركزها، بما يقتضيه من تهميش لنا، أو على أقل تقدير، يترك لنا الفتات، بل إن ما يفرضه من فيتو إقليمي ودولي علي تطبيع المنطقة، والدول الغربية مع إيران يدفعها دائما لعدم الاستقرار، ويقضي على امكانية تحقيق حد أدنى من التوافق على الأمن الإقليمي في المنطقة، يسمح بالتنمية الاقتصادية.

مآل عقيدة الأمن القومي

ألح عليّ في الأيام الماضية سؤال: لماذ آلت عقيدة الأمن القومي التي رفعتها الجمهورية الجديدة إلى أعلى عليين من منتصف العام ٢٠١٣، حتى الآن إلى أن أصبحت مصر مهددة تهديدا وجوديا في أعز مقوماته الأساسية؟ لماذا لم يتبق من هذه العقيدة غير التبشير، بما تحقق من استقرار أمني يحفظ على المصريين وجودهم المادي بالمعني الهوبزي؟- وفيه يفوض السلطة القائمة في كل أمر مقابل الحماية من تغول الآخرين في المجتمع.

الاتحاد الأوروبي، القَلِق بشأن آثار الصراع المزعزعة للاستقرار، والتي يمكن أن تعزز الهجرة غير المنتظمة من مصر إلى أوروبا، ينظر في اتفاق شراكة مع مصر يركز على الهجرة والتعاون الاقتصادي، فيما يمكن أن يكون اتفاقاً مماثلاً؛ لاتفاق جرى التوصل إليه مع تونس في تموز/ يوليو – والذي سيكون الجزء المحوري فيه رزمة دعم مالي كبيرة. وعلى نحو مماثل، وبالنظر إلى قلق دول الخليج العربية حيال أثر الحرب على استقرار مصر، يُذكر أن هذه الدول تفكر بزيادة إيداعاتها في البنك المركزي المصري؛ لتعزيز قدرة الاقتصاد الهش في البلاد، رغم إحجامها سابقاً عن الاستمرار في تقديم الدعم المالي للقاهرة. صندوق النقد الدولي يدرس بجدية زيادة قيمة القرض المقدم لمصر، برغم أنه لم يقم بمراجعته الدورية هذا العام.

يتقاطع العدوان على الفلسطينيين مع الحرب الأهلية في السودان، ومع تغيير الطبيعة القانونية والتاريخية لنهر النيل، بما يؤدي إلى تحكم إثيوبيا في تدفق الماء لنا، مع ليبيا المنقسمة بين حكومتين ومجلسي نواب وتشظي قبائلي ومناطقي، يمكن أن تقود إلى حروب جديدة، مع أزمة اقتصادية طاحنة، قد تكون مدخلا؛ لتوحيد التهديدات وفتحها على بعض لدى المواطن الذي بات يستشعر، أن السلطة لو كانت “فلحت في التعامل مع الأزمات السابقة، لأحسنت التعامل مع الحرب في غزة”.

يسود لدى المصريين وكثير من العرب شعور بالعجز الممتزج بالغضب وإنهاك شديد… إلى أين تقود حالة العجز والإذلال التي يستشعرها الرأي العام العربي المنطقة.. هل تمثل حرب غزة بداية؛ لحدوث تغييرات قادمة على صعيد الأنظمة السياسية، خاصة في مصر والأردن، أم تكون مدخلا جديدا لعدم الاستقرار؟

نحن هنا نتحدث عن التهديدات المباشرة، ولا نشير إلى الجديد من مهددات الأمن القومي من أمثال التغير المناخي، والذكاء الاصطناعي وتحول سلاسل التوريد وتصاعد الأوبئة… إلخ

لماذا وصل بنا الحال إلى الشعور بالتهديد الذي تسرب إلى المواطن وتستشعره دوائر عدة في هيكل الحكم؟

١- الصدور عن مفهوم ضيق للأمن القومي، يتركز مضمونه على الحفاظ على النظام واستمرار قيادته، وليس الدولة بمواطنيها ومؤسساتها. أنا أدرك أن المسائل لا تدار بهذه الثنائيات المتعارضة؛ وإنما هي متشابكة من عناصر عدة، لكن يقيني أيضا، أن العنصر الغالب وفي حال التعارض، يتم تقديم استمرار قيادة النظام على أي أمر آخر، والسبب واضح، فليس لدينا رئيس سابق؛ فهو إما مقبور، أو مغدور أو مسجون.

٢- عدم دمج تطلعات المصريين في قضايا الأمن القومي، ناهيك عن دورهم في المراقبة والمساءلة.

عندما أرادت القيادة السياسيةـ أن تتعامل مع تهديد حرب غزة، طلبت تفويضا من المواطنين، وجرى استبعاد قضاياه من الحوار الوطني؛ في تأكيد واضح، أن مسائل الأمن القومي من الخطورة؛ لأن يشارك فيه المصريون بمكوناتهم، أو أن يدلوا فيها بدلوهم. هذه الأمور يستقل بها الرئيس.

إن الجمهورية الجديدة تعاني من “رهاب الجماهير”- على حد قول أحد الباحثين، وتفتقر إلى الأدوات الأساسية؛ لإدارة الحشود الكبيرة التي كان يمتلكها حسني مبارك. يدرك النظام، أن الاحتجاجات هذه المرة تحدث في وضع أكثر اضطرابًا؛ بسبب الأزمة الاقتصادية. وفي مثل هذا السياق، يمكن أن تكون الحرب حافزًا؛ لمزيد من المعارضة الاجتماعية، لذا فقد لجأ إلى استراتيجية تأميم الاحتجاج. في المقابل، يدرك قطاع من المواطنين بحسهم التاريخي، أن الحروب مع إسرائيل هي حربهم المباشرة؛ فما بالك وهي تجري بجوارهم اللصيق، وفي هذه الحرب على أرضهم.

٣- قيود الداخل المصري التي قد يكون في مقدمتها الضعف الاقتصادي والارتهان للديون، ولكن يمتزج بها، وهن المؤسسات، وتآكل النخبة، وسيادة مناخ المزيدات، والخوف من القمع المتزايد، وتسميم أجواء النقاش العام، بالإضافة إلى شيوع الاستقطابات التي يجري تغذيتها دائما.

كانت ولا تزال الجمهورية الجديدة رهينة لحظة تأسسيها التي بدأت بالانقلاب على يناير، وما أنتجته، وظل هاجسها هو استعادة السلطة التي تدحرجت إلى الناس العادية لأول مرة في تاريخ مصر المعاصر، وبدلا من أن تكون معركتها مع العوامل التي أنتجت يناير من فساد، وسوء توزيع للدخل والفرص والثروات، واستبداد وتقزم استراتيجي في الإقليم والعالم،  [بالمناسبة كان من ملامحه الموقف من إسرائيل- كما ظهر في الانتفاضات الفلسطينية التي تعاقبت منذ مطلع الألفية] …؛ صوبت سهامها ليناير، وما مثلته من بحث عن الكرامة والعدالة والحرية والعيش الكريم.

امتد عداؤها مع الإسلاميين في الداخل إلى مجمل الإقليم، مما شل قدرتها على تنويع شبكة تحالفاتها. صحيح أنها استدركت ذلك مبكرا- كما جرى مع حماس ٢٠١٧، وليبيا بعد ٢٠١٩، وأعادت تقييم تحالفاتها في الإقليم بعد ٢٠٢١ … إلا أن ذلك كله افتقد لرؤية أوسع للإقليم من جهة الاهداف، والأدوار الاستراتيجية التي يمكن أن نقوم بها. تقزم الدور المصري في القضية الفلسطينية؛ لينتهي إلى مجرد وسيط يُستدعى عند اندلاع المواجهة بين حماس وإسرائيل، أو حديث في المصالحة بين الفصائل الفلسطينية برغم الفيتو الأمريكي والإسرائيلي- الذي نعلمه- عليها.

غلب على سياستنا التعامل مع الخطر الحالي مع افتقاد لرؤية استراتيجية، تتسم بالمرونة في ظل غياب لليقين عن العالم. انتصر التكتيكي على الاستراتيجي مع شعور بالوهن والضعف، بما يؤدي إلى تعاظم المخاطر التي يفاقمها تآكل شعبية النظام.

السياسة الخارجية في إقليم ملتهب، اكتمل بحرب غزة.. هل يكفي المنطق المصري الراهن في انتهاج سياسات البقاء خلف الحدود، أم بات هنالك ضرورة؛ لانتهاج سياسات، تمدد هجومي لاستباق التهديدات في الإقليم، وما كلفة ذلك وعائده؟

٤- غياب المصداقية، حيث الفجوة بين المعلن والواقعي؛ فما يدور خلف الأبواب المغلقة، غير ما يتم به دغدغة مشاعر الجماهير، أو التحايل على مواقفها.

بات معلوما من الصحافة، ومراكز التفكير العالمية بالضرورة، أن هناك إجماعا عربيا- باستثناء دول قليلة- على ضرورة القضاء على حماس؟ لكن السؤال الذي لم يطرح في مصر، وإن تم فعلى استحياء: هل من مصلحة مصر القضاء عليها، وبالتالي تفقد أحد أدوات الضغط على إسرائيل، ودور الوساطة- أهم دور تلعبه لصالح الولايات المتحدة والغرب؟