بعد أيام تدخل أحداث غزة شهرها الثالث، ورغم ذلك لا زال مشروع الترانسفير أو تهجير سكان غزة، هو الشغل الشاغل للكيان الصهيوني. كانت أصوات الترانسفير قد بدأت مع بدء عملية السيوف الحديدية؛ ردًا على طوفان الأقصي، لكن ما إن عبرت مصر على لسان حكومتها وشعبها برفض المشروع، وشاركتها في ذلك الأردن، ثم شمل قرار القمة العربية الإسلامية في الرياض يوم 11نوفمبر قراراً قويًا برفض ذلك، إلا وعادت الأصوات من جديد، تدق بقوة أسماع المصريين حول هذا المشروع التوسعي الاستعماري.
كان فحوى مشروع الترانسفير يتضمن نقل مئات الآلاف من الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، مع مساعدة الغرب وإسرائيل على تقديم مجمل الخدمات لهم، مع رشوة مقنعة، تفيد تنازل الغرب أو تحمله عبء الدين الخارجي المصري المستحق، إزاء عديد بلدان العالم في الغرب، وبعض بلدان الخليج أو الصناديق الدولية الدائنة، وهو الدين المقدر إجمالا بأكثر من 165 مليار دولار. وفي خطوة تالية، عدل المشروع؛ بسبب إعلان القاهرة رفضها المطلق لمشروع التهجير الماس بأمنها القومي، بجعل التهجير يتم عبر توزيع تلك الأعداد الغفيرة على محافظات مصر المختلفة. وقد رفضت مصر والأردن هذا المشروع، وقد اضطرت الولايات المتحدة أكبر داعم لحرب إسرائيل، بل لوجودها، هذا المشروع على مضض؛ بسبب رفض البلدين له، دون الخوض في تفاصيله.
وكانت القاهرة قد أشارت في فحوى ردها، إلى أن القبول بالمشروع يعني تصفية للقضية الفلسطينية، لأن إخلاء الأرض، وهي الرقم الأصعب خلال مجمل صولات، وجولات الصراع العربي الإسرائيلي، سيعني إبدالها آليا بمستوطنات صهيوينة، وتلك المستوطنات ستكون هي الأقرب على حدود مصر. كما أن الأمن القومي لمصر سوف يتعرض؛ لمشكلات لا حصر لها، لكون تلك المجموعات في سيناء ستقوم بهجمات، سيعقبها رد إسرائيلي، ما يعني خرق السيادة المصرية، وتعريض أمن مصر للخطر، وإنكسار كرامتها أمام طرفي الصراع. وحتى إذا ما تم توزيع المهاجرين على المحافظات المصرية، فإن هؤلاء سيشكلون على عكس المهاجرين السوريين، والسودانيين خميرة عدم استقرار لمصر، لكون عيونهم متجهة نحو أرضهم المحتلة الجديدة(غزة)، ولكون الكثير منهم ينتمي بالفكر لحركة حماس، ما يجعل عودة الإخوان المسلمين قائمة في الساحة السياسية المصرية.
هنا يبقى السؤال: كيف يتم القضاء على فكرة الترانسفير؟
أولا: ما دام الترانسفير هو أمر رضائي، وليس إجباريا (على الأقل حتى اليوم)، فإن سببه المؤكد هو شح السلع، والخدمات المقدمة لأهل غزة. بعبارة أخرى سيكون؛ سبب التهجير الرغبة في العيش حياة كريمة، تتوافر فيها كل وسائل الحياة من مشرب ومأكل، وملبس وخدمات الصحة والتعليم وغيرها. ومن ثم سيكون من المهم قيام صانع القرار المصري بتوفير السلع والخدمات لسكان القطاع، كي ينتهي السبب الرئيس لهجرة هؤلاء. من ناحية أخرى، فإن مسألة تقديم المساعدات المطعومة بدعم شعبي دولي؛ لرفع المعاناة عن سكان غزة، سيكون سببا جوهريا في رفض هؤلاء أنفسهم فكرة الترانسفير. وفي هذا الصدد، من المفيد للغاية أيضا، وفي إطار رفع الأعباء عن أهل القطاع، أن تقوم مصر باستقبال كافة الجرحى والمصابين الراغبين في استكمال علاجهم بمصر، لما في ذلك من رفع المعاناة عنهم؛ بسبب شح الموارد الصحية بالقطاع في الوقت الحالي.
ثانيا: كانت الأنفاق بين مصر والقطاع خلال المسافة الممتدة بين الجانبين والمقدرة ب 13كم، مصدرًا لإزعاج مصر؛ لكونها كانت تستخدم؛ لإحداث قلاقل كتهريب السلاح إلى سيناء، وإدخال أو إخراج العناصر الإرهابية من وإلى القطاع. وقد عمدت مصر إلى غلق تلك الأنفاق، بعد أن أعيد فتحها إبان أحداث 25يناير 2011؛ لتستخدم في تقويض الاستقرار الداخلي. لذلك من المهم استغلال الأنفاق في الوقت الراهن– ولو بشكل سري ومؤقت- لإدخال المساعدات بشكل أسرع، مما يجعل سكان القطاع قابلين للعيش داخله. بل ولا نبالغ القول في أهمية دعم المقاومة عبر تلك الأنفاق، التي ستكون من اتجاه واحد، أي تقديم وإرسال، دون استقبال، وستشرف عليها الجهات الأمنية إشرافا كاملا، ما دام أن إسرائيل تفرض حصارا خانقا على القطاع.
ثالثا: من المفيد أن يقوم صانع القرار المصري في شأن موضوع الترانسفير بدراسة كيف نجح نظام مبارك في استيعاب مشكلة خرق عشرات الآلاف من الفلسطينيين للحدود في يونيو 2007، وديسمبر 2008، دون أن تصيب مصر فلسطينيا واحدا خلال تلك العملية. إن القيام بذلك سيعمق من استفادة مصر في التعامل مع الأزمة الراهنة.
رابعًا: من المهم، أن تقوم مصر بغية ضرب سيناريو التهجير بتخويف إسرائيل الداعية له من جراء تنفيذه. هنا فإن تسويق حديث عن أن التهجير حتما سيجعل المهاجرين، يقطنون المنطقة الحدودية بين الكيان الصهيوني ومصر، في المنطقة الممتدة من طابا إلى معبر كرم أبو سالم، والتي يصل مداها إلى 200كم، سوف يدعم عدم الاستقرار لإسرائيل نفسها. بعبارة أخرى، سيكون خطاب مصر هو أن حدود إسرائيل مع الفلسطينيين في غزة التي كانت قاصرة على مسافة لا تتعدى 10كم داخل القطاع ناحية معبر أريز، ستصبح شاءت مصر أو أبت ممتدة إلى 200كم، ما يجعل هناك استحالة في تأمين تلك المنطقة من الجانب المصري والصهيوني.
خامسًا: استمرار الخطاب المصري الثوري القائل بأن التهجير هو تصفية للقضية الفلسطينية، لما لهذا الخطاب من أثر جيد على مسامع المقاومة في غزة خاصة، والفلسطينيين في عموم الأراضي المحتلة عامة، وكافة الفلسطينيين حول العالم بشكل أعم. فالتهجير سيجعل الأراضي العربية تتآكل يوما بعد يوم، ودروس الماضي تعلم الجميع كيف أن الوعود الإمبريالية والصهيونية، بل وقرارات الأمم المتحدة بشأن اللاجئين (كلها) مآلها سلال المهملات.
سادسًا: الإسراع بالتنسيق مع كافة الأطراف الأخرى المناوئة لإسرائيل، بما يقرب مصر أكثر وأكثر من المقاومة الفلسطينية (والحوثية المتحكمة في باب المندب المدخل الطبيعي لقناة السويس). هنا نذكر على الأخص، بأهمية حدوث تقارب أكثر مع إيران، أولا: لمعرفة نواياها، وثانيا: للاستفادة منها؛ بشأن أيه أمور تخص دعم الاقتصاد المصري. هنا نشير إلى ما بحت به أصوات الشخصيات العامة من الدبلوماسيين، وقادة الرأي والمثقفين أمثال، عمرو موسى والراحل محمد حسنين هيكل؛ لضرورة الاستفادة من إيران، خاصة فيما يتعلق بالسياحة الإيرانية للعتبات الشيعية بمصر، وكذلك التبادل التجاري معها. كما أنه من الأهمية التأكيد على أن هذه الخطوة على الأرجح ستعطي صانع القرار هامشا أكبر من المناورة وحرية الحركة، خاصة وقد سبقت مصر بشأنها بلدان أخرى صديقة للكيان الصهيوني كالإمارات والسعودية، كما أنها لن تغضب إسرائيل التي تقوم هي الأخرى بمحاولة الالتفاف على المصالح المصرية في إفريقيا عامة وإثيوبيا خاصة.
سابعًا: عدم تضييع مصر وقتها للتفكير في أية ترهات متعلقة بمشاريع وهمية متعلقة بالشرق الأوسط الجديد، أو قناة بديلة لقناة السويس عبر خليج العقبة، أو صفقات قرن أو ممرات اقتصادية كتلك التي جرى التخطيط لها عبر الإمارات والسعودية، وإسرائيل في قمة العشرين بالهند في 10 سبتمبر الماضي. فتلك المشاربع محكوم عليها بالفشل، كما أن من يروجون لها مصابون بخلل عقلي, فمضيق تيران غير صالح لملاحة السفن العملاقة التي تمر بقناة السويس، بل يمكن القول هنا، ما ذكره مهاب مميش الرئيس السابق لشركة قناة السويس ردا على مشروع الممر الاقتصادي، من أن سفينة ضخمة واحدة تحمل 120 ألف حاوية، لن يعوضها إلا 100 قطار، يسير بين أبو ظبي من ناحية وحيفا أو أشدود أو عسقلان من ناحية أخرى.