بعد خروج الفصائل الفلسطينية إلى لبنان إثر الاشتباكات مع الجيش الأردني، باثني عشر عامًا كاملة، قامت حكومة بيجين بمغامرة تاريخية، باجتياح قواتها المسلحة لعاصمة عربية، لأول مرة في تاريخ الدولة الصهيونية القصير. كان الهدف الاستراتيجي من تلك المغامرة، هو القضاء على المقاومة الفلسطينية بلبنان، بالإضافة إلى أهداف فرعية أخرى، تمحورت حول دعم القوات اللبنانية الموالية للدولة الصهيونية، وتمكينها من السيطرة على العاصمة، وتنصيبها لإدارة شؤون الحكم في لبنان. تذرعت حكومة بيجن؛ لتحقيق أهدافها من اجتياح بيروت في الخامس من يونيو المشئوم من عام 1982، بالرد على عمليةٍ نوعيةٍ، كانت مجموعة أبو نضال الفلسطينية قد قامت بها؛ لاغتيال سفير الدولة الصهيونية في لندن، تمامًا كما فعلت حكومة نتنياهو في الثامن من أكتوبر 2023؛ ردًا على هجمات المقاومة المشروعة من غزة.

كان انتقال قوات المقاومة الفلسطينية إلى لبنان بموجب اتفاقٍ تم توقيعه في القاهرة عام 1969، تحت إشراف المرحوم الفريق محمد فوزى-وزير الحربية آنذاك- بغرض تنظيم الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، حيث كان ذلك الاتفاق يشمل بنودًا، تتيح حرية الحركة للفدائيين من عناصر المقاومة الفلسطينية على الأراضي اللبنانية. كان الاتفاق بمثابة الحل الوحيد؛ لتسكين الفدائيين على حدودٍ، تتماس مع حدود فلسطين التاريخية؛ كي يتمكنوا بكفاءة من الاستمرار في أعمال المقاومة. ولما لم تكن الحكومة السورية تسمح بشن أى عمليات عسكرية على الدولة الصهيونية من الجولان، فلم يكن هناك من سبيل سوى لبنان. كان وجود قوات المقاومة الفلسطينية المسلحة إذن، في لبنان شرعيًا ومشفوعًا بتوقيع حكومتها، وبترحيبٍ من قوى اليسار اللبناني من الحزب التقدمي والشيوعيين والقوميين العرب، وإن كان ذلك الوجود محل تململٍ من بعض القوى التقليدية اللبنانية المرتبطة بأمريكا، ومشروعها الصهيوني في الشرق.

بدأت عملية اجتياح بيروت، بغارات جوية على جنوب لبنان في الرابع من يونيو 1982، ثم كان الاجتياح البري في اليوم التالي. قال المتحدث باسم قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام بجنوب لبنان في ذلك الوقت، أنه شاهد ثلاثة عشر دبابة ميركافا، تقترب من الحاجز الفاصل بين الحدود. وعندما حاول جنوده منعها من التقدم بوضع عوائق على الطريق، صرخ فيهم جنود الجيش الصهيوني “نحن آسفون، هذا غزوٌ يا سادة”، ليفاجئوا بألف ومائة دبابة ميركافا أخرى، تتقدم صوب الأراضي اللبنانية. وصل الصهاينة إلى صيدا، ثم تقدموا للدامور في قضاء الشوف على بعد 25 كيلومترًا من العاصمة بيروت، لتنفتح بوابات الجحيم.

كان القصف عنيفًا لدرجة بالغة، ومُرَكَزًا بشدة على مناطق قيادة المقاومة الفلسطينية، بغرض تدمير مقدراتها العسكرية، وقتل قادتها أو أسْرِهِم والعودة بهم إلى تل أبيب مُنَكَسي الرؤوس. كانت الخسائر بالغة في صفوف المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين، وهو ما دفع قادة المقاومة إلى اتخاذ القرار الصعب بالموافقة على الخروج من لبنان. كان المُقتَرَح حينها هو أن تخرج عناصر المقاومة دون سلاحها، وهو ما أفشله الفدائيون الفلسطينيون بمقاومةٍ أسطورية، امتدت إلى 88 يومًا، خرجوا بعدها حاملين أسلحتهم برؤوسٍ مرفوعة حد السماء. خرجت أغلب القيادات إلى تونس واليمن، واختار البعض الذهاب إلى سورية، لكنهم وقعوا جميعًا-كما اعترفوا لاحقًا- في خطأ استراتيجي بعدم الحصول على ضمانات؛ لحماية من تبقى من المدنيين الفلسطينيين في ملاجئ لبنان دون سلاح، وهو ما جعل من مذبحة مُخيم “صبرا وشاتيلا” ،التي حدثت بعد أيام من مغادرة آخر الفدائيين الفلسطينيين لبيروت، أمرًا سهلا لقوات حزب الكتائب اللبنانية بقيادة إيلي حبيقة، الذى اغتيل في سيارة مفخخة ببيروت في 2002، إثر إعلانه عن موافقته للمثول أمام محكمة العدل الدولية؛ للإدلاء باعترافاتٍ، عما قام به وشارك فيه من مذابح، أثناء الحرب الأهلية. وقد قيل حينها، أن الدولة الصهيونية هى التى دبرت حادث الاغتيال، حتى لا يميط حبيقة اللثام عن أسرار جرائم، تحرص على طمس آثارها كعادتها. وقعت مذبحة مُخيم “صبرا وشاتيلا” بأيادٍ لبنانية، لكنها كانت مُؤمَنَةً بغطاءٍ من حمايةِ مصاص الدماء العتيد آريئيل شارون، بحجة البحث عن مُسلحين فلسطينيين في المُخيم، فأسفرت عن استشهاد أربعة آلاف مدني فلسطيني بريء خلال 48 ساعة فقط.

دائمًا ما يكون القضاء على المقاومة الفلسطينية- أيًا كانت هويتها- هو الهدف الاستراتيجي للعمليات العسكرية للدولة الصهيونية، ودائمًا ما تخفق في تحقيقه. فكما لم تنجح الدولة الصهيونية في القضاء على المقاومة، باجتياح بيروت في 1982، ها هي الآن، تتفاوض مع عناصر المقاومة بغزة، والتي شنت عدوانها على المدنيين؛ بغرض القضاء عليها، بما يُعَدُ اعترافًا منها بالفشل في تحقيق هدفها الاستراتيجي، إذ لن تكون بحاجة للتفاوض مع طرفٍ هي في سبيلها للقضاء عليه.

كان إخراج المقاومة من بلادٍ هُجِّرت إليها كلبنان، يحدث على أمل العودة إلى الديار، أما الآن فالأمر، يختلف حيث غزة هى الملاذ الأخير وبوابة النهاية. بإفشال مخطط التهجير، من خلال الصمود الأسطوري لأبناء غزة، والرفض الحاسم لوضع ذلك المخطط التاريخي موضع التنفيذ من قِبَل كل من القيادتين السياسيتين بمصر والأردن، تكون المقاومة التي عادت كعِفريتٍ من الجن لا يموت، قد رسمت طريقًا للمستقبل، ينبغي أن تكتمل ملامحه باستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، دون تديينٍ للصراع ،كما أسهبتُ في بيانه بمقالي السابق، لغرض تحقيق حلم الدولة المستقلة، حسبما يقرره أصحاب الأرض الأصليين وحدهم.