تبدو دعوة دولة الإمارات لرئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان على هامش مؤتمر كوب ٢٨ لافتة في هذا التوقيت، حيث ترشح في الآفاق السياسية السودانية توقعات؛ بشأن تسوية ما، ربما يتم بلورتها حاليا في الكواليس؛ بشأن وقف إطلاق النار من ناحية، والبحث في استئناف العملية السياسية في السودان من ناحية أخرى.
وفي تقديرنا، أن دوافع هذه العملية من جانب أبو ظبي، إذا صحت التسريبات بشأنها حول تحول في المواقف، ووجود تقديرات مواقف مستجدة في عاصمة الإمارات؛ بشأن الصراع السوداني، فسوف تكون مرتبطة بعدد من المعطيات والتطورات منها، أنه على الرغم من تغير موازين القوى العسكرية لصالح الدعم السريع خلال الشهر الماضي، فإن هناك حالة من العجز عن تحقيق الأهداف السياسية لطرفي الصراع، أي البرهان وحميدتي، حيث أنه من المشكوك فيه، أن يستمر البرهان كرمانة ميزان في تفاعلات ما بعد الحرب؛ نظرا لعدد من الأمور أولها، طبيعة مسئوليته المباشرة عن تضخم قوات الدعم السريع في فترة ما قبل الحرب، أما الاعتبار الثاني، فهو تحالفه المتذبذب مع الإسلاميين من رموز النظام القديم الذين عجزوا على تغيير الموازيين العسكرية لصالحه، وذلك بعد أن أنهكتهم صراعات داخلية، وبدا لنا أن ضجيجهم الإعلامي بلا طحين عسكري، خصوصا مع وجود تسريبات بهرب البعض من قياداتهم .
في المقابل، فإن آل دقلو عاجزون عن تكوين هياكل سياسية في هذه المرحلة، تكون رافعة وعنوانا لهم، نظرا لطبيعة الممارسات اللا إنسانية التي دمغت قوات الدعم السريع المنفلتة، والتكاليف السياسية والأخلاقية الباهظة التي قد يتحملها هؤلاء المنضويون في أية هياكل سياسية تابعة للدعم السريع.
أما المعطى الأهم، فإنه يتبلور في مسارين متوازيين الأول، احتمال بتحرك ما من جانب الجيش السوداني، ربما ضد قياداته الحالية؛ نظرا لطبيعة أداء الفرق العسكرية، خصوصا في دارفور. أما الأمر الثاني، فهو وجود اتجاهات ببلورة عقوبات أوربية على قيادات مؤثرة في الدعم السريع، وكذلك إمكانية كبيرة؛ لتحرك أمريكي ضد الدعم على خلفية أحداث درافور، واستغلال ذلك كورقة تنافسية في الانتخابات الأمريكية؛ سعيا وراء أصوات الأمريكيين السود.
وقد يكون من المعطيات أيضا إمكانية فعلية لحالة فوضى، تستعر في السودان، بما يتضمنه ذلك من خسائر للأطراف الإقليمية المتنافسة على المستويات الأمنية والاقتصادية والجيو سياسية، وخسائر مرتبطة باستقرار دول متاخمة للسودان، ترتبط تفاعلاتها الداخلية بالمجريات السودانية كحالات، إثيوبيا وإرتيريا وإفريقيا الوسطى وتشاد.
وقد يكون من الملاحظ في هذا السياق تصاعد الضغوط الإعلامية الغربية على دولة الإمارات؛ بشأن طبيعة دعمها العسكري واللوجستي لقوات الدعم السريع، وهو الاتهام الذي تنفيه أبو ظبي، ولكن وجود مثل هذا الاتهام في حد ذاته يحمل دولة الإمارات تكاليف سياسية، وأخلاقية مترتبة على طبيعة أداء قوات الدعم السريع على الأرض، والمتضمنة انتهاكات لقانون الأمن الإنساني زمن الحرب، خصوصا إذا تم توظيف ورقة دافور في الانتخابات الأمريكية، فسوف يتوازى مع ذلك، فاعلية لمنظمات المجتمع المدني الأمريكية والعالمية طبقا للخبرات السابقة، بما يعني إمكانية قيام تحقيقات في الوقائع التي سجلتها جماعات حقوقية سودانية كتجمع محامي دارفور مثلا، وهو ما يرفع مستوى التقديرات؛ بشأن إمكانية تحويل وقائع الانتهاكات إلى المحكمة الجنائية الدولية، خصوصا ما يرتبط منها باغتصاب النساء.
في هذا السياق، فإن اتجاه ترتيب دولة الإمارات؛ لتسوية في السودان قد يجعل خسائرها الماضية، تتحول لنوع من المكاسب، ذلك أن قبول البرهان لهذا المبدأ يعني قبوله، واعترافه بشراكة للدعم السريع أيا كان حجمها في معادلات ما بعد الحرب، وذلك عطفا على المعادلات، والتوازانات العسكرية الراهنة التي حقق فيها الدعم السريع انتصارات، خصوصا في دارفور، وهو أمر يعني في الأخير الحفاظ على مصالح أبو ظبي، خصوصا على شواطئ البحر الأحمر.
أما على صعيد الدعم السريع، فإن الاعتراف به شريك سياسي، وطرف يتم التفاوض معه، هو هدف سعى إليه منذ الشهر الأول من اندلاع المواجهات، والاشتباكات العسكرية في محاولة؛ لتثبيت مواقعه التي حصل عليها قبل الحرب.
وبالتأكيد يدعم هذا الاتجاه، أن الحرب الأهلية السودانية على كامل التراب الوطني السوداني باتت تطرق الأبواب حاليا، بقوة غير مسبوقة، ذلك أن الفصائل الدارفورية المسلحة تحتشد الآن في وسط المدنيين بمدينة الفاشر عاصمة إقليم شمال دارفور؛ انتظارا لقوات الدعم السريع التي أعلنت الحرب ضدها، وهي التي ترابض الآن على حدود الولاية، وفي سياق مواز، فإن معلوماتنا تشير إلى اتجاه قبائل شمال السودان؛ لتكديس السلاح والاستعداد لأي تغول لقوات الدعم السريع على مناطقها، وهي القبائل التي تنتمي إليها تاريخيا، قطاعات لا بأس بها من قيادات القوات المسلحة السودانية، ورموز نظم الحكم المتوالية في السودان.
نجاح الترتيبات المحتملة لدولة الإمارات في التمهيد؛ لتسوية يتطلب عددا من الأمور منها الاتجاه نحو تفاهمات إقليمية، بالتأكيد لن تكون سهلة في ضوء التعنت الذي أبدته قوات الدعم السريع في مفاوضات جدة التي ترعاها المملكة العربية السعودية؛ لدرجة عودة الوفد الأمريكي المُسهِل للمفاوضات لواشنطن، وذلك عطفا على استيلاء قوات الدعم السريع على عاصمة إقليم جنوب دارفور نيالا.
وبالتأكيد يتطلب نجاح هذه التسوية أيضا درجة أعلى من التفاهمات، بين المكونات المدنية السودانية المطلوب منها بلورة تحالف وطني جامع، بدأ الترتيب له باجتماعات بأديس أبابا والقاهرة وجوبا، ولكن نجاح تدشين هذا التحالف، لن يكون ممكنا إلا بتوحيد المبادرات الإقليمية؛ للحل السلمي في السودان، وهي صيغة غير واضح فيها موقف واشنطن على وجه الدقة، رغم أن درجة الوضوح باتت مطلوبة بإلحاح، لوقف إطلاق النار، صحيح أن واشنطن قد دعت مؤخرا، رغم انشغالاتها بأحداث غزة على لسان المتحدث باسم خارجيتها صمويل روبنبرج، بضرورة وقف إطلاق النار في السودان، وذلك في بيان بدا لنا، أنه نوع من إبراء الذمة أكثر من أي شيء آخر، بمعنى أنه أكد على اهتمامه بالمجريات السودانية، دون أن يعلن عن حزمة إجرائية جديدة؛ لوقف إطلاق النار، يمكن أن تقف ورائها بقوة وفاعلية العاصمة الأمريكية.
أما على الصعيد الأوروبي، فإن الخلافات واضحة؛ بشأن إقرار العقوبات؛ بشأن الانتهاكات في هذا الصراع العسكري، وذلك عطفا على مصالح كل دولة أوربية على حدة بالسودان، إذ أن نقطة التوافق الأوروبية الوحيدة بهذا الشأن، هي تقديم العون الإنساني من منصة بعثة مشتركة تابعة للاتحاد الأوروبي في بورتسودان.
أدوار القاهرة تبدو أيضا مطلوبة في هذه الآونة، بعد أن وصل الصراع العسكري في السودان لمستويات مقلقة، وحرجة للأمن القومي على صعيدي سد النهضة، وتضخم أعداد النازحين واللاجئين السودانيين لمصر، صحيح أن العاصمة المصرية قد بذلت جهودا في إطار مبادرة دول جوار السودان، لكن عرقلة هذه الجهود لا يعني التوقف أبدا.
وفي الأخير يبدو لنا، أن نجاح أي تسوية في الصراع السوداني تبدأ بوقف إطلاق النار، لا بد لها أن تأخذ بعين الاعتبار تفعيل، مناهج وآليات العدالة الانتقالية، فالخطايا مارسها الجميع، ضد الجميع مع اختلافات في الدرجة والنوع، وهو أمر يتطلب الكثير من العمل والجهد والإخلاص تحت إدراك وطني وإقليمي، ودولي بضرورة تعافي السودان الدولة، وضرورة الحفاظ عل ما تبقى من شروط سلامة الشعب السوداني، فحياة السودانيين مهمة، ونجاتهم من المجاعة المحتملة، والكوليرا المتفشية راهنا في أربع ولايات فرض عين على صاحب كل ضمير إنساني، وكل صاحب مصلحة في عدم انهيار السودان.