ينسب ولفريد سكاون بلنت – في كتابه التاريخ السري للاحتلال الإنجليزي لمصر –  للأستاذ الإمام محمد عبده قوله ” لقد انتظرنا حريتنا مئات السنين أفلا نصبر على انتظارها بضعة أشهر ؟! “. قال الإمام تلك الكلمة في فبراير 1882م عندما احتدم النزاع بين القوى الوطنية المصرية من جهة وقوى التدخل الأوروبي بزعامة فرنسا وبريطانيا من جهة أخرى، احتدم النزاع حول صلاحيات البرلمان المصري في مناقشة ميزانية البلاد حسب الدستور الديمقراطي الذي وضعته حكومة محمد شريف باشا، الدستور استثنى بعض أبواب الميزانية من الرقابة البرلمانية مثل الأموال المخصصة سنوياً للسلطان العثماني وكذلك الأموال المخصصة لصندوق الدين العام الذي كان مؤسسة أوروبية تتولى تحصيل الديون المستحقة على مصر للدائنين الأوروبيين، لكن الدستور منح البرلمان حق الموافقة على فرض الضرائب الجديدة وكذلك على الاستلاف والاستدانة الجديدة، اعترض الأوروبيون على ذلك، فقد اعتادوا أن يخدموا مصالحهم ونفوذهم داخل مصر في غيبة الشعب وفي غيبة أي مساءلة أو رقابة، كذلك خافوا أن ينتبه البرلمان لحجم تلك المصالح التي هي – في الغالب – نهب منظم لموارد مصر فضلاً عن أمرين : النفوذ السياسي للقناصل الأوروبيين الذين كانوا بمثابة الحكام الفعليين للبلاد. ثم النفوذ الإداري والبيروقراطي للموظفين الأوروبيين على رؤوس كافة المرافق والمؤسسات المصرية .

لما احتدم النزاع كان وجهة نظر الأستاذ الإمام أن يعتصم الوطنيون المصريون بالحكمة وأن يلجأوا للتفاوض حتى لا يتحول النزاع إلى صدام ثم يتحول الصدام إلى مواجهة عسكرية ثم تسفر المواجهة العسكرية عن احتلال يتحين الفرصة للانقضاض على البلاد منذ أخفقت غزوة نابليون بونابرت ثم غزوة فريزر عند مطلع القرن التاسع عشر، وقد كان محمد علي باشا على وعي بذلك فسعى- سعي الدهاة من كبار القادة- لتفادي الوقوع في أسر الاحتلال الأوروبي، ولم يكن حفيده إسماعيل على المستوى ذاته من الوعي فأسلم زمامه لهم فأدانوه بالقروض ثم عزلوه ثم نصبوا نجله الضعيف مكانه ثم قمعوا الحركة الوطنية ثم خان الإنجليز شركاءهم الفرنسيين وسبقوهم لاحتلال مصر منفردين وقد كان الاتفاق الضمني بينهما أن يكون الاحتلال مشاركة بين فرنسا وبريطانيا.

أدرك الأستاذ الإمام أن البضعة أشهر امتدت أكثر من عقدين من الزمن ما بين قولته المشهورة في 1882م ووفاته في 1905م، ثم امتدت البضعة أشهر إلى خمسة وسبعين عاماً تحت الاحتلال، ثم امتدت خمسة وسبعين أخرى تحت الاستقلال، أي امتدت ما يقرب من قرن ونصف قرن، ومازال حلم الحرية بعيد المنال، ولا يزال من ينتظرونها لا يرون لهلالها بزوغاً في الأفق قريباً .

السؤال: لماذا مطلب الحرية يبتعد كلما اقترب، لماذا القمع واحد مع اختلاف جهة القمع، لماذا لم يتغير المشهد الاستبدادي بعد ثورة عرابي 1881م، ولا بعد ثورة 1919م ولا بعد ثورة 23 يوليو 1952م ولا بعد ثورة 25 يناير 2011م، لماذا البضعة أشهر لا تنتهي، هل الاستبداد داء  عضال مصري مزمن ليس له دواء ولا يُرجى منه شفاء، هل الاستبداد قدر تاريخي حتمي؟. هل علينا أن ننتظر بضعة أشهر أم بضع سنوات أم بضعة عقود أم بضعة قرون أم ننتظر الدهر كله، هل الحرية في مصر ممكنة اليوم أو غداً، أم أنها مستحيلة اليوم وغداً وبعد غد؟.

للجواب يلزم الوقوف على عدة نقاط:

1- أن المقصود بالحرية هو الممارسة السياسية العملية التي مارسها المصريون فور خروج الغزاة الفرنسيين من مصر، حين عزلوا الوالي بإرادتهم، ثم حين نصبوا مكانه والياً جديداً بإرادتهم- وهو هنا محمد علي باشا- وقد اشترطوا عليه أن يحكم بالعدل والشرع، وإلا عزلوه. الحرية بمعنى حق الشعب في اختيار حكامه دون تزوير، ومساءلتهم دون خوف، ومحاسبتهم دون تعرض للأذى، ومحاكمتهم إذا خالفوا الدستور أو شروط الولاية، ثم عزلهم عندما تقتضي المصلحة العامة عزلهم. وقد كانت الدساتير مثل دستور الثورة العرابية الذي وضعته حكومة شريف باشا، هي سند المصريين في ذلك، فهي منشأ البرلمانات كتعبير عن إرادة الشعب في مواجهة الحكم، كما هي منشأ الساقين الذين تقف عليهما الديمقراطية: الساق الأولى استقلال القضاء، والساق الثانية حرية الصحافة. فبدون استقلال قضاء وبدون حرية تعبير لا معنى للبرلمان ولا للدستور.

2 – الشعب المصري شعب حر، شعب مناضل في سبيل حريته، ولو أردنا تسجيل وتوثيق كفاحه في سبيل الحرية من عزل الوالي العثماني 1805م حتى ثورة 25 يناير 2011م فسوف نحتاج إلى معهد أو مركز أو مؤسسة تتخصص السنوات الطوال في بحث ودرس ورصد وتوثيق وتحليل نضالات المصريين في سبيل الحرية على مدى يزيد عن قرنين من الزمان. لكن هذا السجل النضالي يراد اخفاؤه ثم تشويه رموزه ثم التقليل من شأنهم ثم وصم الشعب بالسلبية ثم وصفه بالخضوع ثم الحكم عليه بأنه غير جاهز للحرية وغير مؤهل للديمقراطية. وهذا الذي يراد للمصريين وبهم ليس عبثاً ولا عفواً ولا خبط عشواء، لكنه جهد منظم يخدم قوى لها مصالح في مصر وترتيبات في الإقليم، ويستحيل خدمة هذه المصالح كما يستحيل الحفاظ على الترتيبات الإقليمية إذا كان في مصر ديمقراطية حقيقية، أي إذا كان الشعب المصري يحكم نفسه بنفسه.

3 – من حيث المبدأ، واجه المصريون لأجل حريتهم أربع إمبراطوريات- العثمانية ثم الفرنسية ثم البريطانية ثم الأمريكية- وهذه الأخيرة هي الأشد خطراً، لأنها هيمنة بدون احتلال  . ثم واجهوا ديكتاتوريتين أشد عتوا بعضهما من بعض، ديكتاتورية الخديوية من خلفاء محمد علي باشا عبر ثلاث ثورات، ثم ديكتاتورية الرؤساء من ضباط الجيش عبر احتجاجات وانتفاضات لم تتوقف من مارس 1954 حتى يناير 2011م. وما عليك إلا أن توثق حجم ما قدمه المصريون من أرواح ماتت وأعمار أهدرت في السجون والمنافي. ولو درست تاريخ السجون والمعتقلات والمنافي والإعدامات في تاريخ الدولة الحديثة، أي القرنين الأخيرين، فسوف تكتشف الكم والكيف الذي تزايدت له أدوات القمع والقهر والبطش كرد من السلطات على كفاح المصريين من أجل الحرية، سواء كانت سلطات احتلال أو سلطات استقلال .

4 – أعاق الاحتلال، وأعاق الاستقلال، سواء الاستقلال الناقص قبل 1954م، أو الاستقلال الكامل بعدها، كلهم أعاقوا فكرة الحرية، فكرة البرلمان الذي يعبر عن الشعب، فكرة الشعب الذي يحكم نفسه بنفسه. وإذا كان الأوروبيون قد رفضوا أول دستور وأول برلمان- دستور وبرلمان الثورة العرابية- بسبب حق النواب في مناقشة بعض- وليس كل- أبواب الميزانية، فإن هذا صار العرف الفعلي والعملي المعمول به في كافة برلمانات مصر باستثناء برلمانات الأغلبية الوفدية على فترات محدودة ومتقطعة خلال الثلاثين عاماً بين دستور 1923م وسقوط الملكية برمتها وإعلان الجمهورية. برلمانات ما بين ثورتي عرابي و1919م، مثل حكومات الفترة ذاتها، كانت صناعة احتلالية محضة، كانت تعبيراً عن انتصار الإمبراطورية الاستعمارية في مقابل انكسار الثورة الوطنية، حتى إذا اندلعت ثورة 1919م ولدت الآمال من جديد بفجر ديمقراطي وشيك .

5 – لكن كل ما حصلت عليه ثورة 1919م هو استقلال شكلي رسمي مع استمرار الاحتلال بصورة عملية نافذة الكلمة عميقة التأثير، تحت هذا الاستقلال الشكلي لم يحقق المصريون انجازاً كبيراً في السياسة، إذ بقيت الكلمة العليا للإمبراطورية، لجلالة ملك بريطانيا أو من ينوب عنه، وكذلك لدولة رئيس وزراء بريطانيا أو من ينوب عنه، وكان ينوب عنهما المندوب السامي البريطاني الذي كان صاحب الكلمة العليا فوق كلمة مصر المستقلة استقلالاَ اسمياً شكلياً رسمياً، كانت كلمة المندوب السامي الذي حمل لقب سفير بعد اتفاق الصداقة بين البلدين عام 1936م فوق كلمة الملك، وفوق كلمة رئيس الوزراء، بما في ذلك أقوى من شغل منصب رئيس وزراء في تاريخ مصر، وأول رئيس وزراء منتخب انتخاباً حقيقياً دون تزوير ورغم أنف الملك والاحتلال وهو سعد زغلول في وزارته من يناير حتى نوفمبر 1924م .

6 – لم يتوقف المندوب السامي ثم السفير البريطاني عن توجيه الانذارات سواء للحكومات أو البرلمانات أو الملك ذاته، تم إنذار حكومة محمد توفيق نسيم باشا بخصوص بعض مواد الدستور، وتم إنذار حكومة سعد زغلول بعد اغتيال قائد عام الجيش المصري وقائد عام السودان السير لي ستاك، وتم إنذار حكومة النحاس بخصوص مناقشة بعض القوانين في البرلمان، وتم إنذار الملك فاروق ليعفي حكومة أقلية ويكلف مكانها حكومة أغلبية، نصوص الإنذارات- سوف نوردها في مقالات لاحقة- متغطرسة متعجرفة مهينة مذلة سواء لرؤساء الوزراء أو للملك أو للبلد في عمومها، لغة استعمارية رخيصة وقحة.

7 – لكن رغم استبداد الملكين فؤاد ثم فاروق ورغم الاحتلال الفعلي إلا أن التجربة الديمقراطية بين 1923 – 1953م أنجزت- بصورة حاسمة- عدة أمور: 1- صحيح لم تنجز الاستقلال إنجازاً عملياً ولم تدفعه للجلاء المادي عن التراب الوطني لكنها قوت بصورة مثالية مناعة الوعي الوطني العام ضد الاحتلال والاستعمار وهيمنة الأجنبي على مقدرات البلاد، أنجزت هذه الفترة خبرات نضالية كانت منارة وقدوة لكافة الشعوب التي تكافح الاستعمار، وقد توجت الفترة بخمس إنجازات: الجامعة العربية، رفض الاعتراف بإسرائيل رغم الضغوط الغربية، منع الملاحة الإسرائيلية من المرور في خليج العقبة عبر مضايق تيران، رفض الانضمام للأحلاف الغربية، رفض الامتثال للقوة الأمريكية البازغة في الشرق الأوسط .  2- فضلاً عن إذكاء الوعي الوطني في وجه الاستعمار، فإن الفترة 1923 – 1953م أذكت الوعي الديمقراطي لدى عامة المصريين في وجه الاستبداد من أي مصدر كان، فشل الملك فؤاد أن يفرض على حكومة سعد زغلول القبول بأن يكون من حقه  اختيار الأعضاء المعينين في مجلس الشيوخ منفرداً دون موافقة رئيس الوزراء، فاز سعد والوفد في انتخابات 1923م رغم أنف الملك ورغم أنف الانجليز وسقط رئيس الوزراء الذي أجرى الانتخابات في دائرته، حاول الملك إنشاء أحزاب تمثل القصر لكن لم يكن في مقدور الملك ولا الحكومات الموالية له أن تفرض هذه الأحزاب على الشعب، المناعة الديمقراطية لدى الشعب كانت عالية واستمر عبر الثلاثين عاماً مع الاستقلال والدستور أي ضد الاحتلال والاستبداد معا، هذا وذاك، الوعي الوطني ثم الوعي الديمقراطي كانا إنجازين عظيمين.

8 – في المائة عام من 1923 – 2023م، لا فرق في الطغيان بين ملك والرئيس، الجميع دون استثناء واحد أساتذة في الطغيان، لا يحبون الدساتير، ولا يؤمنون بإرادة الشعب، ولا تمثل الحرية عندهم شيئاً. وذلك لسبب تاريخي بسيط: الشعب لم يكن مصدر سلطتهم، سلالة محمد علي باشا كان مصدر سلطتهم هو سيف الباشا ونجله إبراهيم، بالسيف أخذوها، وباتفاقية 1840 حصلوا على الاعتراف الدولي بها، من وجهة نظرهم لم يكن للشعب فضل عليهم بل هم أولياء نعمته وأصحاب الإحسان إليه وعليه وكان رفاعة الطهطاوي هو خير من اعترف بهذه الحقيقة إذ يلقب الباشا في كل كتبه بلقب ” ولي النعم ” . ثم لم يكن للشعب من فضل على الرؤساء من ضباط الجيش، ولم يكن الشعب أبداً من 1953- 2023م مصدر سلطتهم، السلطة حازوها بعدة دبابات في عدة ساعات من منتصف ليلة 23 يوليو 1952م حتى مشرق الشمس . الجيش – كان وما زال- هو مصدر السلطة، والشعب دوره هو الاستيفاء الشكلي لإجراءات حيازة السلطة والتجديد فيها فترة بعد فترة . ذرية محمد علي باشا كان مصدر سلطتهم أنهم ورثته على ضيعته التي تحمل اسم مصر. الرؤساء من ضباط الجيش مصدر سلطتهم أنهم أبناء الجيش. الشعب في كلا الحالين في المائة عام كان على الهامش.

9 – لكن مع فارق ضخم جداً بين العهدين: 1- الشعب حضر وشارك وصنع- وحده- ثورة 1919م، واستمر في الحضور والمشاركة ولم ينصرف، لم يفلح القصر الملكي في إزالة روح ثورة 1919م وهي روح بطبيعتها مدنية شعبية، بنت الناس، منهم جاءت ولهم جاءت، وبهم استمرت تناضل طغيان القصر وغطرسة الاحتلال ثلاثين عاماً . 2- العكس حصل في ثورة 23 يوليو 1952م، ثورة ضباط وليست ثورة شعب، هدير دبابات لا حراك شعبي، انقلاب ليل لا ثورة نهار، الشعب غاب فيها من أول لحظة، وعندما تجلت الرؤية خاطب اللواء محمد نجيب الشعب طالباً منه الإخلاد إلى الهدوء والسكينة. بقدر ما كان الشعب هو سيد ثورته في 1919م، غاب- بالكلية- عن ثورة 23 يوليو 1952م إلا أن يتم حشده وتسخينه وتوجيهه من أعلى للحصول على دعمه في لحظات بعينها.

10 – حصلت مصر من 1954م على الاستقلال، أي جلاء قوات الاحتلال، لكنها لم تحصل على الديمقراطية ولا الحرية ولا الحكم الدستوري . بل في مقابل الاستقلال وجلاء الاحتلال حصلت على ديكتاتورية ولدت وعاشت حتى هذه اللحظة- خريف 2023م – مكتملة الأركان. الحقيقة الوحيدة في هذه الديكتاتورية هو شخص الرئيس كحاكم فردي مطلق، له السلطات المطلقة في أن يصنع دساتير من ورق وبرلمانات من ورق وحكومات من ورق وأحزاب من ورق، فشل الملك فؤاد في أن يصنع حزب الاتحاد ثم حزب الشعب وبقيت مهجورة، لم تكن للملك سلطة مطلقة يملأ بها الحزب. العكس صحيح في حالة الرؤساء من ضباط الجيش، أي رئيس يقدر يفعل ما يشاء، وبدون أن يقول فإن ترسانة الأجهزة الأمنية والبيروقراطية تجعل من رغباته حقائق على الأرض . وهذا أكبر خطر على مستقبل الديمقراطية والحرية: حاكم فردي مطلق، قادم من صفوف الجيش، تحت يده أضخم ترسانة أمنية وبيروقراطية إدارية، منتشرة ومتعمقة، رأسياً وأفقياً، فوق وتحت كل حبة تراب من أرض مصر..

نعود للسؤال المؤجل: هل ننال حريتنا بعد بضعة أشهر كما كان يرجو الأستاذ الإمام محمد عبده في فبراير 1882م أي قبل ما يقرب من مائة وخمسين عاماً؟ أم ربما ننتظر مائة وخمسين عاماً جديدة؟

الحرية في مصر، وما في معناها، مثل الديمقراطية، حكم الدستور، دولة القانون، الحريات المدنية، حقوق الإنسان، حكم الشعب نفسه بنفسه، استقلال القضاء، حريات التعبير، حقوق المواطنين في التعليم والعمل والعلاج والضمان الاجتماعي، إلى آخر مما يعطي كلمة الحرية معناها ومبناها، يقف أمامها ثلاث عقبات: 1- درجة التطور الاجتماعي. 2- مصالح طبقات الحكم القائمة. 3- مصالح قوى الهيمنة التي حلت محل قوى الاحتلال.

وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.