كانت نظرية “الأزمات ذات التوتر المُنخفض” هي النظرية الأهم التي اعتمدتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة في تعاطيها مع الأزمات الدولية بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية. وقد تأسست هذه النظرية على قيام الولايات المتحدة بإدارة الأزمات الدولية من خلال الحفاظ على مستويات التوتر الكامنة بها في درجتها المُنخفضة، فلا هي تترك الأسباب الجوهرية للأزمات، تَعتَمِل بصورة ذاتية، بما يؤول إلى الانفجار الذي يخرجها عن السيطرة، ولا هي تسهم بمجهودات صادقة، وحقيقية في ابتكار حلول جذرية؛ لإنهاء تلك الأزمات. اعتمدت الولايات المتحدة في إدارتها لنظرية “الأزمات ذات التوتر المُنخفض”، على ضبط إيقاع تلك الأزمات من خلال استخدامها لحلفائها التاريخيين أو الجدد، أو حتى من خلال صناعة ورعاية “أعداء” تكتيكيين، تدفعهم دفعًا؛ لتحقيق أهداف الحفاظ على مستوى التوتر في درجته المنخفضة.

إثر إنهيار الاتحاد السوفيتي، وحين كانت الولايات المتحدة تُعَمِّد نفسها كقطب واحد ووحيد، اقتضى الأمر منها، أن تحسم بعض الأزمات بصورة قاطعة، كي تمهد الأرض؛ لتجذير تطبيق نظرية “الأزمات ذات التوتر المُنخفض” بشكل كُلىٍ وفق قواعد، واشتراطات جديدة في حقبة جديدة. فعلى سبيل المثال، كان تدخل الولايات المتحدة في حرب تحرير الكويت التي انتهت في يناير 1991، محكومًا بتلك النظرية التي أخرجت القوات العراقية بموجبها من الكويت، دعمًا لشرعيةٍ ترعاها، مع احتفاظها بأساس الأزمة قائمًا، دون حلٍ نهائي، إلى أن جاء وقت الحسم القاطع، عندما قامت بغزو العراق في مارس 2003، بعدما مهدت الطريق؛ لضمان تدمير النسق التقليدي للدولة العِراقية الذي كان حزب البعث يضبط مُقدراته، فأنهت بذلك دورًا هامًا، كان يلعبه عِراقُ صدام حسين في المنطقة من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى، رَسَخت تقليدًا جديدًا، يؤكد انفرادها بإدارة العالم كقطب واحدٍ مُتَحَكِمٍ، يحمي مصالحه الاقتصادية بقوة السلاح، فيُنَصِبُ من يشاء حاكمًا، ويُقصي من يشاء.

مَرت تحت جسر التاريخ مياهٌ كثيرة، فمع انفراد أمريكا وحلفائها بالعالم، اختارت بعض القوى الناشئة سُبُلها الخاصة التي اعتمدت على أعلى درجات الجدية في البناء المتمحور على الذات في لحظاتٍ تاريخيةٍ مُوَاتيةٍ، لتفرض تلك القوى نفسها على خريطة الصراع الدولي بمعطياتٍ جديدة، ترسخت على وقع هزيمة “العولمة” بتأثير الأزمة المالية في 2008.

اضطرت الولايات المتحدة، في ظل التناقضات الداخلية لنظرية “الأزمات ذات التوتر المُنخفض”، إلى تبني رؤية مختلفة لإدارتها للأزمات، قَبِلت بموجبها الهبوط بمستوى التوتر المُدار من “المُنخفض” إلى “المحسوب”. فقامت بتقديم مزيد من الدعم ،الجَلي حينًا، والخَفي أحيانًا، لمن صنعتهم من أعداء تكتيكيين؛ للقضاء على أعدائها التاريخيين، مع احتفاظها بعناصر القوة التي تؤهلها؛ للخلاص منهم بعد انتهاء أدوارهم. لكن كان للتاريخ اللئيم-على حد وصف هيجل- قولٌ آخر، وأثر مباشر في مزيدٍ من التطور السلبي لنظرية الولايات المتحدة في إدارة الأزمات. فبعدما هبطت الولايات المتحدة بمستوى التوتر المُدار من “المُنخفض” إلى “المحسوب”، وصل الأمر مع تطور الواقع، إلى مستوى جديد من التوترات، تَبَدَّى في أزمة كورونا في ديسمبر 2019، ثم تَعَمَق في الأزمة الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، لينفرط عِقدُ السيطرة في أكتوبر 2023.

في الثامن عشر من الشهر الماضي، وبعد مُضي واحدٍ وأربعين يومًا من انفجار الأوضاع بغزة، نَشَر الرئيس الأمريكي جو بايدن مقالًا في جريدة واشنطن بوست، حَدَد فيه الخطوط العريضة لسياسات حكومته في المرحلة المُقبلة. لم يكن ما جاء بمقال بايدن- فقط- خروجًا عما جرى عليه العرف بالسياسة الأمريكية من اعتبار، أن أى مسئول أمريكي في سَنَةِ حُكمِهِ الأخيرة يكون “بطة عرجاء” Lame Duck، لا يتخذ قرارات استراتيجية، ولكن المقال كان قد احتوى أيضًا، على ما يشير إلى التحلل والتفكك اللذين أصابا نظرية إدارة الأزمات ذات التوتر المُنخفض، ثم المحسوب.

حظيت الأزمة الروسية الأوكرانية بالنصيب الأكبر من مقال بايدن، بينما أكد فيما يتعلق بأحداث غزة الدامية على عدم قبوله بتهجير الفلسطينيين، ورفضه لإعادة إحتلال غزة، مع تبنيه- بصياغة شديدة العمومية- لحل الدولتين بعد اختفاء حماس بالقضاء المُبرم عسكريًا عليها، ودون أن يطرح تصوراته في الملفات الشائكة كوضع مدينة القدس على سبيل المثال. ناهيك عن الاضطراب في تحديد الأولويات، وتبني طروحات عامة مُستَهلَكَة، دون اقتراح لنماذج تطبيقية غير تقليدية، وعدم وضوح الرؤية، فيما يتعلق باحتمالات توسيع الصراعات العسكرية ذات التكلفة الباهظة التي يتحملها دافع الضرائب الأمريكي، سواء في أوكرانيا أو في غزة، فإن ما جاء بالمقال يعكس بوضوح، أن الولايات المتحدة لا تمتلك وصفة سياسية موضوعية، تتيح إنهاء أي من الأزمتين، فيما يعرف “بسيناريو الخروج” Exit Scenario.

انهزمت نظرية إدارة الأزمات ذات التوتر المنخفض، حين فقدت الولايات المتحدة قدرتها على التحكم في مستوى هذا التوتر الذي تحول بمرور الزمن من توتر منخفض إلى توتر محسوب، ثم ما لبث إلا وقد صار توترًا طائشًا، يصعب سَبْر أغواره. سيغادر بايدن البيت الأبيض تاركًا بلاده أمام واحدٍ من خيارَين لا ثالث لهما، فإما أن تقوم أمريكا بتعديل رؤيتها في نظرية التوتر بصيغة أخرى أكثر عنفًا، تستعيد بها السيطرة والتحكم، وإما أن تتحول هي إلى دولةٍ أكثر عدالةً واحترامًا للقيم الإنسانية.