من المؤكد أنه لا يوجد في تاريخ البشرية كلها شعب- مثل الشعب المصري- تعثر في إقامة نظام سياسي، يحظى بالرضا العام الطوعي، عبر أربع ثورات شعبية كبرى، استغرقت أكثر من قرنين من الزمان، وهذه الثورات هي -من باب التذكير- فرض محمد علي واليا على مصر بضغط الحراك الشعبي المستمر، منذ ثورات القاهرة على الحملة الفرنسية، ثم الثورة العرابية التي كان الدستور والحكم البرلماني هو أول مطالبها، باتفاق جناحيها المدني والعسكري، ثم ثورة 1919 الوطنية الكبرى، بكل ما ترتب عليها من إدخال وتعميق مفاهيم الحداثة السياسية في الثقافة العامة.

المقصود بمفاهيم الحداثة هنا، هو المواطنة، دون تمييز ديني أو طبقي، وحكم القانون، ومساءلة الحكومة، مع القدرة على تغييرها سلميا.

ثم يكتمل هذا المربع (الذهبي ) للثورات المصرية الشعبية بثورة يناير ٢٠١١، والتي كانت دوافعها ومطالبها هي ذروة الحداثة السياسية في تطور الوعي الشعبي المصري، إذ كانت كل هذه المطالب، وتلك الدوافع، تتركز بالكامل على الحرية والكرامة الإنسانية و العدالة الاجتماعية، ولم تختلط بمطلب الاستقلال الوطني الذي كان قد أنجز منذ العام ١٩٥٦، وهذه بذاتها حيثية، تجعل من ثورة يناير شهادة حاسمة على وعي المصريين- الذي لا شبهة فيه- بحاجتهم إلى الديمقراطية، واستحقاقهم لها على الرغم مما صدر إليهم طوال القرنين اللذين نتحدث عنهما، من رسائل، واتهامات تنفي أهليتهم لتلك الديمقراطية، وانعدام قدرتهم على ممارسته، وذلك؛ لتسويغ الاستبداد، وكأنه الوضع الطبيعي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.

خلاصة هذه المفارقة التاريخية الصارخة، هو أن النخبة أو النخب الحاكمة هي التي تجهض الثورات، وتنقلب على مطالبها، وتتنكر لوعودها وعهودها، وذلك منذ محمد علي، حتى خريطة الطريق التي أعلنت يوم ٣ يوليو عام ٢٠١٣، وهو ما لم يكن؛ ليحدث إلا مع تجريد المجتمع تدريجيا بعد كل ثورة من قواه المنظمة، كالأحزاب والنقابات، وسائر مكونات المجتمع المدني الحديث.

ما علاقة هذه المقدمة بانتخابات الرئاسة التي تبدأ بعد أيام من الآن، والتي بدأت بالفعل في دوائر المصريين المقيمين في الخارج؟

للإجابة علينا، أن نتذكر، أن هذه الانتخابات تجري، منذ بدأ الحديث حولها تحت شعار الجمهورية الجديدة، والتي قيل، إن قوامها هو خلق المساحات المشتركة بين القوي السياسية في البلاد، والتي انطلق الحوار الوطني؛ للاتفاق على أسس، ومعالم تلك المساحات في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع.

وقد فهمت المعارضة، أو أرادت أن تفهم، كما فهم بعض المستقلين، أو أرادوا، أن يفهموا، أن هذه الدعوة للمساحات المشتركة، وتلك المبادرة الرئاسية لعقد حوار وطني، هي بالفعل إيذان ببدء مرحلة جديدة، تتخلص من معظم تراث السنوات العشر السابقة، فيما يتعلق بالحياة السياسية، باعتبار أن ما جرى من كبت للحريات  العامة، وتوسع في الحبس والاشتباه، كان قد فسر بمنطق الضرورة والظروف الاستثنائية، في إطار مكافحة الإرهاب، وعزز ذلك الفهم المظاهر الأولية للحراك السياسي المجتمعي؛ استعداداً للاستحقاق الانتخابي الرئاسي.

ومن هذه المظاهر تلك الوثيقة التي صدرت في نهاية المرحلة الأولى من الحوار الوطني، وتتحدث عن شروط اتخاذ الانتخابات الرئاسية المقبلة، بداية لمسار سياسي جديد، تختفي فيه تلك السلبيات العديدة سالفة الذكر، ومن تلك المظاهر أيضا، الزخم الذي أحدثته حملة النائب السابق أحمد طنطاوي، قبل أن يخرج من السباق؛ لتعذر حصوله على النصاب اللازم من التوكيلات الشعبية الموثقة، للأسباب الموروثة من الجمهوريات القديمة، والتي استمرت، وتستمر مع الجمهورية الجديدة !!!

كذلك كان من مظاهر ذلك الحراك محاولات الحركة المدنية الديمقراطية الاتفاق على مرشح، ينافس الرئيس عبد الفتاح السيسي، ولكن دون جدوى، مما حدا بالحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي إلى الدفع برئيسه فريد زهران، إلى الترشح؛ من أجل توسيع مساحة الحركة أمام المعارضة عموما،

أو على الأقل؛ لإثبات وجود البدائل للنظام السلطوي، سواء من حيث الأشخاص، أو السياسات.

وبالطبع كان من قبيل الحراك السياسي تلك السلسلة من الأحاديث التي نشرت في مواقع إلكترونية، أو أذيعت عبر قنوات تليفزيونية غير مصرية لشخصيات بارزة في المجال العام، أبرزها الدكتور حسام بدراوي؟ والسيد منير فخري عبد النور.

لكن كل هذه المظاهر للحراك السياسي وغيرها كانت أشبه بموجات، لا تلبث أن تتحطم على الشاطئ الصخري الصلب المتمثل في السلطوية، التي لا ترى في الشعب أهلية سوى؛ للتفويض من باب استيفاء شكل الشرعية أمام العالم الخارجي أولا وأخيرا، فقد كان، ولا زال الموقف الرسمي من النظام، ومن الحملة الانتخابية للرئيس عبد الفتاح السيسي، هو التجاهل التام لكل هذه المظاهر، وما تطرحه من قضايا وأفكار وانتقادات، وهذا يعني، أن الحوار السياسي (الانتخابي ) في البلاد هو حوار من طرف واحد، أو أن السلطة غير معنية بشيء من هذا.

وهكذا نعود إلى جولة جديدة من إجهاض النخبة الحاكمة؛ لمطلب المشاركة الشعبية الجادة، و تفويت فرصة إضافة سابقة، يمكن البناء عليها في المستقبل، خاصة وأن الضرورات أو الذرائع التي بني عليها، ما يسمى بديمقراطية التفويض، قد زالت بلا أدنى شك أو مكابرة، وحلت محلها ضرورات ومطالب، تطرح السياسات الكبرى في السنوات العشر الماضية، و السنوات الست المقبلة؛ للتساؤل القلِق والمُلح، وخاصة الأوضاع الاقتصادية، أي حجم المديونية الخارجية، ومصير الجنيه المصري، ومستويات الأسعار الاستهلاكية المرعبة، و وسياسات الإنقاذ أو حتى وقف التدهور.

فكيف في مواجهة هذه الضرورات، لا يتقدم السيد رئيس الجمهورية الحالي، والمرشح للانتخابات المقبلة الذي لا يخالج أحد ذرة شك، في أنه سيكون الفائز فيها ببرنامج انتخابي تفصيلي، للإجابة على هذه الأسئلة شديدة الالحاح، وشديدة الأثر على حياة ناخبيه؟ وكيف بعد أربع ثورات، عبر قرنين من الزمن، لا تزال السلطة في مصر مؤمنة، بأنها ليست مسئولة أمام مواطنيها، وأن هؤلاء المواطنين هم رعايا، لا حق لهم في مساءلتها من الأصل؟ حتى وإن طالبتهم بالتصويت لانتخابها؟!

إن هذا استفهام استنكاري، وليس بحثا عن إجابة، سبق أن ذكرناها، عندما قلنا، إن السلطوية تكرس جهدها بعد كل ثورة؛ لتجريد المجتمع من قواه المنظمة، حتى لا تبقى قوة، أو جهة غيرها قادرة على الحركة والفعل، وهكذا فلا جديد ولا تغيير، ولا إضافة في انتخابات الرئاسة للجمهورية “الجديدة”.