لماذا غيّر صندوق النقد الدولي موقفه من دعم مصر اقتصاديًا فجأة؟.. يطرح السؤال نفسه بقوة، بعدما أبدت إدارة الصندوق عدم ممانعتها في زيادة التمويل الموجه لمصر، رغم سبق إيقافه شريحتي تمويل بقيمة 700 مليون دولار، ومراجعتين كان يفترض إجراؤهما منذ مطلع العام الحالي.

يثير تغير موقف الصندوق المفاجئ تساؤلات حول الدور السياسي الذي يلعبه، ويعلو على دوره كمؤسسة نقدية فنية، خاصة أنه جاء في خضم الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، ومحاولات غربية؛ لاستخدام لعبة شطب الديون؛ لجس نبض القاهرة حول إمكانية توطين جزء من سكان غزة بسيناء، وهو رفضته مصر على لسان رئيسها ورئيس وزرائها ومجلس نوابها عدة مرات.

صدام سعر الصرف.. ما الذي تغير؟

تأزمت العلاقة بين مصر والصندوق، قبل شهور مع رفضها مطالبه بمزيد من تخفيض سعر صرف الجنيه الذي تم تخفيضه ثلاث مرات، منذ مارس/آذار 2022، مما أدى إلى خسارة 50% من قيمته مقابل الدولار، ورفع التضخم الذي ناهز 40 % ورفع أسعار الكثير من السلع الأساسية.

طالب الصندوق الحكومة بحماية الاستقرار الاقتصادي الكلي ومكافحة التضخم، واعتبره مطلبا ضروريا؛ لضمان تحقيق الرخاء لجميع المصريين، لكنه في الوقت ذاته ضغط، من أجل تعويم الجنيه الذي يعني مزيدا من التضخم وارتفاع الأسعار.

بحسب صحيفة فورين بوليسي، فإن صندوق النقد الدولي لديه عدد كبير جداً من الاقتصاديين يعملون لمصلحته الخاصة، وهو ما يتضح في الشروط المتعارضة في برامجه بين خفض التضخم والتعويم والبطالة والحماية المجتمعية.

صندوق النقد.. من الممانعة إلى المرونة

أمام الممانعة المصرية للتعويم، لم يقم الصندوق بإجراء مراجعتين مقررتين للبرنامج المصري، كان من شأنهما ضخ حوالي 700 مليون دولار من شرائح القروض المتأخرة، وقالت رئيسته كريستالينا جورجييفا نصًا، إن تأخير التعويم يعني نزيف “الاحتياطيات النقدية”، قبل أن يبدي الصندوق مع نشوب حرب غزةــ عدم ممانعته في حصول مصر ليس فقط على الشرائح المتأخرة، ولكن تمويل بقيمة 3مليارات دولار.

جورجييفا، بررت رغبة الصندوق المستحدثة لدعم مصر في تصريحات خاصة لـ “رويترز” على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا، والمحيط الهادئ “أبيك”، بأن الحرب لا تدمر” سكان غزة واقتصادها فحسب، بل تمثل صعوبات للدول المجاورة، مثل مصر ولبنان والأردن، من خلال فقدان السياحة وارتفاع تكاليف الطاقة.

يقول عمرو عدلي، الباحث الاقتصادي غير المقيم بمركز كارنيجي للشرق الأوسط، إن مصر هي ثاني أكبر دولة مدينة لصندوق النقد الدولي، وبالتالي له مصلحة في عدم تعثر الاقتصاد المصري، خاصة أنه مؤسسة سياسية، لكنها قائمة على المساهمات من الأعضاء، كما أن التعثر سيتم تفسيره، بأنه فشل للصندوق الذي شكل السياسة المالية لمصر منذ عام 2016. للصندوق سلسلة تجارب غير موفقة في الأرجنتين وسريلانكا وباكستان وتونس وفنزويلا والكونغو ولبنان وغانا واليونان وتركيا والبرازيل وزامبيا وماليزيا، والتي طبقت أجندة اقتصادية، وقرارات تضغط على الطبقات الفقيرة، أو دمرت الصناعة المحلية.

فقبل 20 عامًا، فرض الصندوق على غانا تعديل الجمارك على الواردات من السلع الغذائية؛ لتتعرض الأسواق لإغراق أوروبي، أضر إنتاجها الزراعي ومزارعيها.

واتبعت زامبيا نصائح الصندوق برفع التعريفة الجمركية على وارداتها من الملابس، ما دمر 140 شركة محلية للملابس لصالح الماركات الأوروبية، وفي مالاوي دفعها لإلغاء دعم الأسمدة بالكامل، والتحول لزراعة المحاصيل النقدية للتصدير، على أن يتم استيراد محاصيل أساسية، والاستفادة من فارق السعر بينهما، وكانت النهاية “مجاعة”.

يواصل عمرو عدلي، إن الصندوق لم يقم بتحول نوعي في علاقاته مع مصر؛ فالعلاقة بينهما ذات طابع سياسي مع شق فني، يتعلق بالتدبير النقدي الذي يتم بناء عليه وضع برنامج اقتصادي، يترجم في التقارير الفنية التي يصدرها الصندوق، وكذلك فإن المبلغ الذي أعلن عن زيادته، يعد صغيراً مقارنة بالاحتياجات التمويلية لمصر، وتأثيرات الحرب عليها.

تأثرت السياحة المصرية بمنطقتي نويبع وطابا، بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة مع خفض الحجوزات بنسبة 20%، كما ارتفعت أسعار النفط لمستوى أعلى من مستهدفات الموازنة التي حددت متوسط سعر البرميل بـ 80 دولارًا، لمستوى 83 دولارا قبل أن تعاود التراجع لمستوى 81 دولارًا، بفضل تأجيل اجتماع أوبك بلس، ومن شأن كل زيادة بقيمة دولار واحد في سعر برميل النفط عن السعر المحدد بالموازنة، أن تؤدي إلى تغير في حجم المخصصات الخاصة بالبترول بحوالي  3 و4 مليارات جنيه.

يضيف عدلي، أن عرض الصندوق يمضي قدمًا في مطالبه الخاصة بتعويم الجنيه، أو تخفيض قيمته وبيع الأصول الحكومية؛ لتوفير المزيد من السيولة الدولارية، وعرض زيادة التمويل يرتبط بخشية الصندوق حاليًا من اتهامه بالقصور في متابعة برنامج الإصلاح المصري، خاصة فيما يتعلق بسعر الصرف المصري الثابت، منذ 2019 فضلا عن دور الدولة في الاقتصاد، وتراجع الاستثمارات، ولذلك لم يصدر الصندوق مراجعاته حتى الآن؛ لأن المشكلات ستطاله مع المساهمين.

ووفقًا لمعهد كلينجدال الهولندي،  فإن مصر عليها تقديم المزيد من التنازلات للمجتمع الدولي؛ للحصول على شرائح جديدة من التمويل من صندوق النقد الدولي؛ للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي أهمها، تحسين آليات الحكم، ومكافحة الفساد، والحد من دور مؤسسات حكومية في الاقتصاد.

الخوف من موجات المهاجرين

الدكتور أشرف غراب، الخبير الاقتصادي نائب رئيس الاتحاد العربي للتنمية الاجتماعية، أرجع تغير موقف الصندوق لعدد من الأسباب أهمها، أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تشكل تأثيرا بالسلب على اقتصاديات الدول المجاورة بالفعل، ومنها مصر ولبنان والأردن.

يضيف أن الصندوق يقدم تمويلًا وقائيًا؛ لمنع وقوع أزمات، وهو يجري بصفة مستمرة تعديلا لخطط الإقراض، وينظر لمصر، أنها تضررت من الحرب على غزة، وتوفر إقامة لـ 9 .10 ملايين لاجئ، وتخشى الدول الغربية، أن يمثل ذلك خطرا عليها عبر موجات من المهاجرين، خاصة في ظل الحرب الأهلية في السودان والصراع في ليبيا.

يتوزع عدد اللاجئين على أراضي مصر بين 4 ملايين مواطن سوداني، و1.5 مليون مواطن سوري، وفق آخر استطلاع للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الذي أشار أيضًا إلى احتمالية ارتفاع الرقم في ضوء التدفقات القادمة من السودان مؤخرًا.

يقول غراب، إن مصر هي البوابة الأساسية والوحيدة لأي مساعدات، تدخل غزة واستقبال المصابين والجرحى واستقبال مزدوجي الجنسية وخروج رعايا الدول الأجنبية، وبالتالي ينظر إليها بشكل مختلف من المؤسسات المالية العالمية، خاصة أن اقتصادها تضرر من الحرب بتأثر إيرادات السياحة، ونقص واردات الغاز القادم من الشرق؛ لتسييله ثم إعادة تصديره لأوروبا.

صندوق النقد.. أمريكا المتحكم الأول

أشادت واشنطن في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بالدور المصري فـ 70% من المساعدات للفلسطينيين، تم إدخالها من مصر بجانب دورها في التهدئة وملف الأسري، واستقرارها يمثل استقرارا للمنطقة.

معروف أن واشنطن هي  صاحبة أكبر حصة في صندوق النقد الدولي، بنحو 16.5%، ومع حقوق التزام بمبلغ 155 مليار دولار، أصبح لديها حق النقض على القرارات السياسية الرئيسية، وتلعب دورًا كبيرًا في توجيه صندوق النقد الدولي للمضي قدمًا في قرارات بعينها.

دومينيكو لومباردي، العضو السابق بصندوق النقد الدولي، يصفه بأنه مؤسسة سياسية، تتخذ قراراتها على أساس فني، والأمور فيها ليست إما أسود و أبيض، بل هناك هامش من التأويل، وهو ما حدث في أمور في الخلاف بين روسيا وأوكرانيا على الديون في ٢٠١٥، حينما تدخل الصندوق لدعم أوكرانيا رغم التحفظ الروسي، وعدم اتفاق التمويل مع قواعد الصندوق حينها.

كما بدل قواعد عمله عام 2010، خصيصًا من أجل تقديم المزيد من القروض لليونان تحت شعار تفادي “خطر يهدد أوروبا”، وتكرر الأمر حينما قرر الصندوق ضم اليوان الصيني إلى سلة عملاته الرئيسية معترفا به كعملة احتياط، وكان الهدف توجيه إشارة إلى الصين التي لا تتمتع بوزن كبير في صندوق النقد الدولي، وفقا للومباردي.