تحمس المخلصون من المصريين وغيرهم من العرب والمسلمين؛ لدعوات مقاطعة المنتجات والخدمات الأوروبية والأمريكية التي تؤيد دولها، أو شركاتها حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة، والضفة والقدس الشرقية، وبالفعل نجحت المقاطعة في عقاب عدد من الشركات ذات النشاط العابر للقارات.
المقاطعة كشفت عن روح التضامن الواسع بين كافة الطبقات، والأجيال مع الحق الفلسطيني، بما في ذلك الأجيال الناشئة التي تشكل وعيها في حقبة التسلل الإسرائيلي في عدد من الدول العربية تحت مظلة اتفاقات السلام. أثبت المصريون، أن الفترة من نوفمبر 1977م، حيث مبادرة السادات بزيارة إسرائيل، وحتى اندلاع حرب غزة 7 أكتوبر 2023م، فترة 46 عاماً، لم تسمح لإسرائيل بموضع قدم بين الشعب المصري، ولا بمثقال ذرة من اعتراف بها أو استعداد للتطبيع معها، الوعي الوطني المصري- فيما يخص إسرائيل- ما زال في تمام نضجه واكتماله.
لدى المصريين إحساس عميق، بأن فلسطين قضيتهم، وأن نصرتها واجبهم. ورغم الوهن العربي الشامل، إلا أن المصريين ثابتون على الوعي، بأنهم جزء من الأمة العربية، وأن مصر قلب الأمة العربية بغض النظر عن سياسات الحكام، وما يعقدونه من اتفاقيات وعلاقات مع إسرائيل. المصريون ليسوا مع أن تدخل مصر في حرب نظامية عسكرية ضد إسرائيل، هذا توافق عام تلقائي وعفوي بين عامة المصريين وخاصتهم، لكن المصريين في الوقت ذاته مع نصرة أشقائهم في فلسطين بكل السبل الممكنة، ولدى عموم المصريين توافق ضمني مفاده، أن السلام الرسمي مع إسرائيل ينبغي ألا يكون في حال تضاد، وتناقض مع التزام مصر العربي، وبالأخص الالتزام برعاية الحقوق الفلسطينية، لأن مصر جزء من الأمة العربية، ثم قلب الأمة العربية، ثم القيادة الطبيعية للأمة العربية، وهذه القيادة رهن بتصدر مصر في لحظات الخطر، فترسم الطريق، وتضع النقاط على الحروف.
القضية الفلسطينية قضية مصرية، ومصيرية لمصر سواء بالجغرافيا أو التاريخ أو الأمن أو السياسة. مصر تكسب مكانةً مرموقةً في الإقليم والعالم حين تكون القضية الفلسطينية على قائمة أولوياتها ذات الصلة بوجودها الصميم. قضية في قلب الاهتمام والتركيز والتي بدونها تكون مصر في قلب الخطر آجلاً أو عاجلاً. إسرائيل لا أمان لها، والغرب الأوروبي لا أمان له، وأمريكا لا أمان لها. وقد توافق الثلاثة على حرب إبادة همجية بربرية، تنتهك كل، ما عرفت البشرية من مواثيق وأعراف وقوانين وأخلاق للسلم والحرب. حرب غزة- الربع الأخير من 2023 م- جددت كشف اللثام وإماطة الغطاء عن طبيعة الوحشية الغربية الكامنة في تلافيف الروح، والضمير والعقل الغربي من روما القديمة إلى روما الجديدة (أمريكا وحلف الأطلنطي).
أمريكا- وهي أعتى إمبراطوريات التاريخ سلاحاً وعنفاً وغشماً وبطشاً- ترعى وتكفل وترشد وتخطط حرب الإبادة في غزة، تقدم السلاح والمشورة الفنية العسكرية، تقدم الدعم الدبلوماسي حول العالم كله، تتولى الدعاية لحق إسرائيل في إبادة من تبقى من الشعب الفلسطيني، أو تهجيره من أرضه وإخراجه من دياره، والقذف به في متاهات المجهول.
هذه الهجمة الشرسة هي التطور الطبيعي والامتداد العضوي لألف عام من العدوان الغربي على أمتنا، وأقول على أمتنا، فنحن أمة واحدة، تتعدد مسميات الدول، وتتنوع خصائص الشعوب، لكن يجمعنا إقليم واحد وتاريخ مشترك، وقواسم ثقافية تجمع أكثر مما تفرق. وهكذا الغرب نفسه- أمريكا وغرب أوروبا وكندا وأستراليا وفي القلب إسرائيل- هذا الغرب يعتبر نفسه حضارة واحدة من أثينا إلى روما إلى واشنطن، ثم يعتبر نفسه قائد الحضارة الإنسانية، ثم يعتبر نفسه مركز العالم، وكل من سواه هوامش وأطراف، ثم يعتبر نفسه القانون والمعيار والشرع الدولي، كما يعتبر نفسه النور والثقافة والحداثة والغاية التي يسعى كل من سواها؛ للاقتداء بها وتقليدها والاصطفاف خلفها. لا توجد كيانات مفردة أو منفردة أو منعزلة أو مستقلة، كل دولة أو أمة أو شعب، هي جزء من سياق حضاري وتاريخي وثقافي نابع من الأرض التي تعيش عليها، وتربطها مع جوارها من كل الجهات.
على مدى ألف عام، ونحن محل للعدوان الغربي، من القرن الحادي عشر، حيث انطلقت الحروب الصليبية إلى منتصف القرن العشرين، حيث تأسست إسرائيل بدعم أسرة الحضارة الغربية بكامل هيئتها وعددها. استغرقت الحروب الصليبية القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ثم جاءت موجة الكشوف الجغرافية لتطويق عالمنا والإحاطة به إحاطة السوار بالمعصم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. ثم بدأت موجة الاستعمار الأوربي، تحيط بالشرق كله من الهند حتى شواطئ الأطلنطي من القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين، مسار تاريخي طويل غير منقطع، بدأ صليبياً ثم استعمارياً ثم صهيونياً.
ألف عام من العدوان، بدأ صليبياً وانتهى صهيونياً. وفي كلا الحالين الغرب متوحد ضدنا.
هذا العدوان المتواصل، أنتج في كل مرحلة من مراحله نوع المقاومة الذي استطاعته شعوب المنطقة عجز الفاطميون- وهم عرب- عن رد الغزو الصليبي، فتقدم الأكراد من زنكيين وأيوبيين، ثم عجز الأيوبيون، فتقدم المماليك وهم شركس وترك، وكانت لهم الريادة في صد الصليبيين والمغول معاً، ثم عجز المماليك، فتقدم العثمانيون الذين وضعوا أوروبا تحت سيوف الرعب، ثم تخلف العثمانيون، فتفككت إمبراطوريتهم، وسقطت بلادنا بلداً وراء الآخر في قبضة الأوروبيين. سقطت مصر، ثم الجزائر، ثم تونس ثم السودان ثم المغرب ثم اليمن، في القرن التاسع عشر، ثم سقطت ليبيا في مطلع القرن العشرين، ثم سقط الشام والعراق بعد الحرب العالمية الأولى، ثم تأسست إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، أما مشيخات الخليج، حسبما كانت تعرف في القرن التاسع عشر، فقد دخلت في الحماية البريطانية بموجب اتفاقيات رسمية وليس بغزو، وسوف نتعرض لكل ذلك بالتفصيل في مقالات لاحقة.
تدهور الإمبراطورية العثمانية، أفسح الطريق لبروز الحركات القومية وظهور المقاومة الداخلية في كل بلد، برز عمر مكرم في مصر، الأمير عبد القادر في الجزائر، عبد الكريم الخطابي في المغرب، عمر المختار في ليبيا، كما ظهرت في القرن العشرين تيارات سياسية وطنية؛ لإخراج الاحتلال وإنجاز الاستقلال.
الاستعمار والمقاومة هما المحور الذي تأسست عليه الدولة، والمجتمع والإنسان الحديث في العالم العربي وفي الشرق كله، ففي غمار المعارك التي فرضت علينا، تشكلت هويتنا المعاصرة، هوية مقاومة، هوية تحرر وطني.
نجحنا في إخراج الاحتلال كاملاً، لكن لم ننجح في إحراز التحرر الوطني كاملاً، وقعنا تحت أشكال جديدة من الهيمنة.
السؤال: لماذا لم ننجح في التحرر الكامل من الهيمنة الغربية؟ الجواب: تجده في حركة المقاطعة المذكورة في صدر المقال، المقاطعة روح طيبة، لكنها كشفت عن أهم نقاط ضعفنا، نحن شعوب مستهلكة، لا شعوب منتجة، نستورد أكثر مما نصدر، تقريباً نستورد كل شيء، لو استمرت المقاطعة، لربما لا نجد، ما نحتاجه من غذاء ودواء، الاستقلال السياسي لا يكفي، بدون استقلال اقتصادي، والاستقلال الاقتصادي لن يتحقق، دون إحراز سبق في الصناعة والتجارة، وتحديث الزراعة، وكل ذلك لن يحدث، دون استثمار في البشر تعليماً وعلاجاً وتكريماً واحتراماً، بحيث يكون الإنسان العربي قادراً على المنافسة مع الإنسان الغربي، سواء بسواء في مقاعد الدرس والمصانع والمزارع والأسواق والإدارة إلى آخره.
يتساءل عامةُ الناس: لماذا نعجز عن نصرة فلسطين؟ لماذا نخضع للغرب؟ لماذا سقف طموحنا محدود؟ لماذا حكوماتنا عاجزة؟
الجواب في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.