خيار المقاومة المسلحة لأي سلطة احتلال خيار مشروع، ومارسته كثير من قوى التحرر الوطني في العالم كله؛ لنيل استقلالها وانتزاع حريتها، كما أن تجارب المقاومة المدنية السلمية التي قادها غاندي في الهند، أدت أيضا إلى استقلالها وتحررها.
والموكد أن فلسطين عرفت كل صور المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، دون أن يؤدي ذلك إلي نيل الحرية وبناء دولتها المستقلة.

فمنذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في مايو ١٩٦٤، وخيار المقاومة المسلحة والعمليات الفدائية، كان هو تقريبا الخيار الوحيد، وتغير الحال مع تحركات الداخل الفلسطيني، سواء بين عرب ٤٨ الذين يعيشون في فلسطين التاريخية، أو بين الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية، وقطاع غزة. وقد جاءت انتفاضة الحجارة في 1987؛ لتؤسس لنمط جديد من المقاومة المدنية والشعبية، واجه فيها أطفال فلسطين بصدورهم العارية الدبابات الإسرائيلية، وطافت مئات الصور الملهمة عن نضال الشعب الفلسطيني مختلف دول العالم في ظل تعاطف، ودعم دولي غير مسبوق تجاه القضية الفلسطينية.

وقد ساهمت انتفاضة الحجارة في فتح مسار سياسي جديد وغير مسبوق، منذ النكبة في عام ١٩٤٨، وتم التوقيع على اتفاق أوسلو في ١٩٩٣، وسمح بعودة منظمة التحرير إلى قطاع غزة، والضفة الغربية وإقامة السلطة الفلسطينية، ووعد بتحويل الحكم الذاتي الذي ناله الفلسطينيون في مناطق (أ) و(ب) بالضفة الغربية مع قطاع غزة إلي دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وهو المسار الذي أجهضته السياسات الاستيطانية الإسرائيلية.

ومع تعثر مسار أوسلو، وتفجر العنف داخل الأراضي الفلسطينية، قام الرئيس الراحل حسني مبارك بعقد مؤتمر “صناع السلام” في شرم الشيخ في ١٩٩٦ برعاية مصرية أمريكية، وحضره الرئيس الأمريكي كلينتون والروسي يلتسين والفرنسي شيراك، والملك عبد الله وياسر عرفات غيرهم من قادة العالم العربي والعالم، وأكد على التمسك بالمسار المدني؛ لحل الصراع ورفض االعنف والإرهاب والاستيطان، وتمسك بحق الفلسطينيينن في العيش بسلام وفق حدود آمنة.

ويمكن القول، إن انتفاضه الأقصى التي اندلعت في عام ٢٠٠٠، مثلت نقطة وسط بين انتفاضة الحجارة في 1987، والمواجهات المسلحة التي جرت بين فصائل المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس وإسرائيل، وخاصة في قطاع غزة، حيث شهدت انتفاضة الأقصى خليطا من استخدام الأدوات الشعبية، والمدنية والعنيفة والمسلحة بجانب الاغتيالات.

وقد استمرت انتفاضة الأقصى أربع سنوات، دون أن تسفر عن تعديل في موازين القوى بين الجانبين، ولم يتقدم الفلسطينيون أي خطوة على طريق بناء دولتهم المستقلة.

ومنذ ذلك التاريخ يأس قطاع واسع من الفلسطينيين من جدوى الانتفاضات المدنية، والشعبية وبدأت فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس الدخول في مواجهات مسلحة مع إسرائيل، بدأت في 2008، حين شنت إسرائيل هجوما عسكريا على غزة، استمر 22 يوما، بعدما أطلق فلسطينيون صواريخ على بلدة سديروت بجنوب إسرائيل. وهو ما أدى إلى مقتل 1400 فلسطيني، و13 إسرائيليا قبل الاتفاق على وقف إطلاق النار.

أما حرب يوليو 2014، فقد اندلعت عقب خطف حماس لثلاثة مستوطنين إسرائيليين وقتلهم، واستمرت المواجهات بين حماس وإسرائيل في قطاع غزة حوالي 50 يوما، وأسفرت عن مقتل 2100 فلسطيني، مقابل 73 إسرائيليا منهم 67 عسكريا، ثم شهد قطاع غزة ثلاث مواجهات بين حركة الجهاد، وإسرائيل، آخرها العام الماضي، قبل أن تقدم حماس على عمليتها الأخيرة في ٧ أكتوبر، والتي خلفت حوالي ١٣٠٠ قتيل إسرائيلي، وقامت على إثرها قوات الاحتلال بالعدوان على قطاع غزة، وخلفت حتى الآن حوالي ١٧ ألف شهيد فلسطيني، بينهم حوالي ٧ آلاف طفل.

والحقيقة أن تداعيات عملية ٧ أكتوبر كثيرة، وسير المعارك ليس في صالح حماس رغم صمودها الكبير والملفت، وتكبيدها جيش الاحتلال خسائر موجعة، وأن فرص إسرائيل في السيطرة المؤقتة على قطاع غزة راجحة، ولكنها في كل الأحوال، لن تكون دائمة، ولن تستطيع، أن تقضي على المقاومة، أو تجتثها كما تعلن حاليا، إنما سننتظر دورة جديدة من الزمن، وستعود المقاومة بصورة جديدة غالبا أكثر قوة وعنفا.

وأيا كان مسار المعارك الدائرة حاليا في قطاع غزة، فإن المؤكد إنه لا يمكن إدانة مبدأ المقاومة المسلحة، ما دام ظل هناك احتلال، قضى على كل فرص التسوية السلمية، وتعامل مع الانتفاضات المدنية، كما يتعامل مع الانتفاضات المسلحة، من حيث القمع والقتل والاستهداف، وجعل قطاعا كبيرا من الشارع الفلسطيني، يرى إنه لا يوجد أي مستقبل إلا بالكفاح المسلح.

والمؤكد أن من تمسكوا بالمقاومة المدنية، والشعبية لم يرفضوا المقاومة المسلحة، إنما اعتبروا، أن نمط المقاومة الوحيد الذي أنتج مسارا سياسيا، أي اتفاق أوسلو، كان انتفاضة الحجارة المدنية الشعبية، وحتى القوى التي رفضته مثل، حماس استفادت منه وعادت بمقتضى هذا الاتفاق إلى الأراضي الفلسطينية في غزة والقطاع.

سيبقى من المهم إعادة الاعتبار للمقاومة المدنية والشعبية، دون إدانة للمقاومة المسلحة، وأن قبول مبدأ المقاومة المسلحة لا يجعلنا تحت أي ظرف، أن ننسى الدور التاريخي الذي لعبته المقاومة المدنية والشعبية، في تحرير كثير من بلاد العالم.