في سنواته الأخيرة، تطرق وزير الخارجية الأمريكي الأشهر “هنري كيسنجر” لمرات عديدة إلى دوره في حرب أكتوبر (1973).

أراد، أن يقول، إنه لولا الدور الذي لعبه للحقت بإسرائيل هزيمة كاملة في تلك الحرب.

من مفارقات التاريخ، أنه عاش لما بعد المائة؛ ليرى هزيمة أخرى لإسرائيل، زلزلت ثقتها في أجهزتها الأمنية وجيشها، الذي قيل إنه لا يقهر، على يد فصيل مسلح فلسطيني.

في كتابه الأخير “القيادة”، سجل اعترافين على درجة عالية من الأهمية والخطورة.

الأول: أن أجهزة المعلومات والاستخبارات الأمريكية فشلت تماما، في توقع أن تبادر مصر بأية أعمال عسكرية؛ لتحرير الأراضي المحتلة، فموازين القوة لا تسمح والهزيمة مؤكدة.

الفشل الاستخباراتي امتد إلى مجموعات المتابعة في وزارة الخارجية الأمريكية.

بصورة مشابهة، تكرر ذلك الفشل الاستخباراتي في عملية (7) أكتوبر (2023).

بالحالتين، بدا الغرور؛ سببا جوهريا، لما حاق بإسرائيل.

في حرب غزة، وصلت أزمة المعلومات والاستخبارات إلى حدود غير متصورة بالنسبة لقوة عظمى مفترضة.

بالساعات والأيام الأولى لحرب (1973)، ساد اعتقاد راسخ داخل الإدارة الأمريكية، أن إسرائيل سوف تستعيد الموقف سريعا، وتلحق بالمصريين والسوريين هزيمة جديدة.

في اليوم السادس من الحرب الثلاثاء (11) أكتوبر تأكد، أن إسرائيل على شفا هزيمة كاملة على طول قناة السويس.

كان ذلك هو الاعتراف الثاني.

في صفحة رقم (358) كتب، أن البيت الأبيض أبلغه، أن مئات الدبابات وعشرات الطائرات خسرتها إسرائيل في المعارك الأولى التي اندلعت، منذ يوم (6) أكتوبر، وأن هناك طلبا ملحا؛ لإمدادها فورا بأسلحة، تعوض خسائرها، وأن تزر رئيسة الوزراء “جولدا مائير” واشنطن لـ “عرض قضيتها” بنفسها.

الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون”، استجاب لطلبات السلاح، و”كيسنجر” أشرف بنفسه على الجسر الجوي مستعينا بالطيران المدني؛ لإزالة أية معوقات، تؤجل إرسال المساعدات المطلوبة؛ لإنقاذ إسرائيل.

إثر صدمة (7) أكتوبر (2023)، تكررت مشاهد الإمدادات العسكرية.

إدارة “جو بايدن” هرعت؛ لإرسال حاملتي طائرات وبوارج حربية وجنود مارينز إلى شرق المتوسط، حتى لا تتدخل أية قوة إقليمية لـ “استغلال الوضع”، ووصل وزير خارجيتها “أنتوني بلينكن” على الفور إلى تل أبيب، قبل أن يلحقه “بايدن” نفسه ووزير دفاعه “لويد أوستن”، وعدد كبير من القادة العسكريين والاستخباراتيين؛ لمد يد العون إلى إسرائيل المهزوزة.

بدت الولايات المتحدة هذه المرة طرفا مباشرا في قيادة الحرب.

في أكتوبر (1973)، كان مفهوما وطبيعيا، أن تهرع لنجدة إسرائيل بمواجهة جيشي مصر وسوريا.

الآن تبدو الصورة غير قابلة للتصديق، فالتدخل المباشر في الحرب على غزة ضد حركة “حماس”، يعني بالضبط اعترافا بهشاشة، وتحلل البنية العسكرية الإسرائيلية.

في أكتوبر (1973)، بدا رفض “كيسنجر” صريحا وحاسما لفكرة زيارة “جولدا مائير” قائلا للسفير الإسرائيلي في واشنطن: “سيمحا دينتز”، إذا ما غادرت في حالة الحرب، فإنها تعطي رسالة سيئة للغاية.

هزمت إسرائيل في الخمسة الأيام الأولى من الحرب.

هذه حقيقة نهائية باعتراف “كيسنجر” نفسه، قبل أن يتكفل بتعديل دفة الحوادث، وحرمان مصر من جني ثمار بطولة السلاح.

فيما اعترف به، أنه تلقى من السفير “دينتز” الذي زاره برفقة الملحق العسكري “رسالة دراماتيكية” تقول حرفيا، إن وزير الدفاع “موشي ديان” ورئيس هيئة الأركان “ديفيد إليعازر” تمكنا من إقناع رئيسة الوزراء “مائير”، أنه إذا ما أقدمت إسرائيل على هجوم مضاد بطول قناة السويس، فإن التكاليف سوف تكون باهظة للغاية، فصواريخ “سام” السوفييتية تغطي من (15) إلى (20) ميل غرب قناة السويس.

بدأ مسار الحوادث يتغير، بالجسر الجوي أولا، وبأخطاء السياسة ثانيا.

جرى الاتصال بوزير الخارجية البريطاني “إليك دوجلاس هيوم”؛ لأخذ زمام المبادرة على ما جرت العادة في إسناد مثل تلك المهام إلى الدبلوماسية البريطانية، كما حدث عند وقف إطلاق النار عام (1967)، حيث تساعدها خبرتها على الصياغات الملغمة.

على الجانب الآخر من الصورة، تلقت حجرة العمليات الملحقة بمكتب وزير الخارجية المصري برقية من الخارجية الأمريكية، تطلب البحث في وقف فوري؛ لإطلاق النار.

في ظروف الحرب، لم يكن ممكنا إيصال البرقية إلى رئيس الجمهورية بالسرعة الواجبة، تبادل الدبلوماسيون المصريون الذين اطلعوا على البرقية الرأي، فيما يجب أن يكون عليه الرد.

كان الملحق الشاب، السفير فيما بعد “محمد إسماعيل”، نجل القائد العام للقوات المسلحة في حرب أكتوبر المشير “أحمد إسماعيل علي” متواجدا في غرفة العمليات بحكم عمله بمكتب الوزير.

سئل إذا ما كان ممكنا إيصال البرقية إلى والدك؟.. أجاب: مستحيل.

كان وزير الخارجية “محمد حسن الزيات” في نيويورك، ولم يمكن الاتصال بالقائم بالأعمال “إسماعيل فهمي”، الذي تولى المنصب بعده، قبل أن يستقيل احتجاجا على زيارة “السادات” للكنيست عام (1977).

اقترح الدبلوماسي المعروف “أسامة الباز” إرسال البرقية بالغة الأهمية إلى الأستاذ “محمد حسنين هيكل” ثقة، أنه سوف يصل للرئيس بأسرع وقت ممكن، ويسدي النصيحة المناسبة في ضوء التطورات العسكرية والسياسية.

كان مثيرا للالتفات أن وزيري الدفاع والخارجية التقيا قبل فترة وجيزة في نادي القوات المسلحة بالزمالك، وتبادلا الرأي فيما قد يعرض على مصر من مقترحات.

“الزيات” رفض وهو في نيويورك اقتراحا أمريكيا بوقف إطلاق النار، وعودة القوات إلى ما كانت عليه، دون عودة للقاهرة.

لم يكن ممكنا، أن يقبل “السادات” عرضا ثانيا، أن تنسحب القوات المصرية إلى غرب القناة، على أن تظل القوات الإسرائيلية في أماكنها الحالية، دون تقدم إلى مواقعها التي انسحبت منها!، فذلك يفرغ النصر العسكري من أية قيمة!

ثم جاء العرض الثالث الذي جرى إقراره، فيما يعرف بقرار مجلس الأمن (338)، ويقضي بوقف إطلاق النار بصورة كاملة، وإنهاء جميع الأعمال العسكرية فورا من لحظة اتخاذ هذا القرار، وفي المواقع التي تحتلها الآن.

كانت تلك شهادة أخرى من داخل وزارة الخارجية المصرية.

في حديث متلفز لـ “هنري كيسنجر”، كشف أنه قال لمجموعة العمل الخاصة به: “أرى أن السادات وقد عبر قناة السويس، لن يفعل أكثر من الاكتفاء بالجلوس هناك.. وأنا لا أعتقد، أنه سوف يقوم بتعميق مدى عملياته في سيناء”.

لم يكن “كيسنجر” يخمن، أو يرجح، ولا الوحي هبط عليه في مكتبه ووسط مجموعة عمله، بل كان على يقين كامل، فلقد أخطره “السادات” يوم (7) أكتوبر على شكل رسالة موقعة من مستشاره للأمن القومي “حافظ إسماعيل” بنواياه والعمليات العسكرية ما زالت جارية.

حسب قراءة “كينسنجر” لتلك الرسالة الخطيرة، كما ذكر في كتابه “الأزمة” الصادر عام (2003)، أنها مجرد افتتاحية، وقد كان المهم في نظرنا هو مخاطر الاتصال بنا على هذا النحو في هذه اللحظة، ذلك أن معنى هذه المخاطر هو ما لم يقل:

١ ـ إن الاتصال بنا معناه، أن الرئيس السادات قرر أن يعتمد علينا.

٢ ـ وأن معناه أنه على استعداد بنواياه وسياساته، أن يبتعد عن الاتحاد السوفيتي.

٣ ـ وأنه قرر، أن يهجر السلاح بما في ذلك سوريا.

وكانت الفقرة الخطيرة في رسالة “السادات”: “إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات، أو توسيع مدى المواجهة”.

على الفور اتصل “كيسنجر” بـ”وليام كولبي” مدير المخابرات الأمريكية في ذلك الوقت، الذي كان قد اطلع على الرسالة الخطيرة، وتساءل مستغربًا: “لماذا لم ينتظروا؟”، كما نقلت الرسالة بنفس اللحظة إلى إسرائيل عبر سفيرها في واشنطن.

أخذ دور “كيسنجر” يتمدد كمهندس للتسوية السياسية بالطريقة التي جرت، والنتائج التي أفضت إليها، حتى وصلنا إلى مشروع التهجير القسري الذي حاول “بلينكن” الترويج له، دون جدوى.

رغم غياب أي ظهير عربي، أثبتت المقاومة في غزة قدرتها على الصمود، والتمترس فوق أراضيها أيا كانت التضحيات.

بدا الخطاب الأمريكي مرتبكا، ويفتقد أية تصورات شبه متماسكة لليوم التالي بعد الحرب، وبدت قدرات “بلينكن” محدودة بالقياس على ما كان يتمتع به “كيسنجر”، الذي التقط الفرصة السانحة؛ لإجهاض بطولة السلاح في أكتوبر، وإنقاذ إسرائيل من هزيمة كاملة.

ثم نجح في ترتيب المنطقة من جديد بإخراج مصر من الصراع العربي- الإسرائيلي، وتهميش أدوارها والاستفراد بالدول العربية واحدة إثر أخرى.

لم ينجح “كيسنجر” وحده في إجهاض نصر أكتوبر.

إدارة “السادات” السياسية تكفلت بأغلب المهمة.

هناك مخاوف حقيقية الآن، تؤشر على نكبة جديدة بالتهجير القسري من غزة إلى سيناء، ومن الضفة الغربية إلى الأردن.

المقاومة الفلسطينية تمثل الآن خط الدفاع الأول عن سيناء.

غزة وسيناء قضية واحدة.

هذا ما لا بد، أن ندركه في مصر.