“أكتبُ إليكم بموجب المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، لكي أسترعي انتباه مجلس الأمن إلى مسألة أرى أنها قد تُفَاقِم التهديدات القائمة التي تكتنف صَون السلم والأمن الدوليين”. كان ما سبق هو مقدمة خطاب الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو جوتيريش، والذى وجَهَهُ يوم الأربعاء الماضى للسيد خوسيه خافيير دومينيجز رئيس مجلس الأمن*. أسهب السيد جوتيريش بعد تلك المقدمة، في سرد تفاصيل المأساة الإنسانية والدمار المادى في إسرائيل والأراضى الفلسطينية “المُحتلة” -حسب وصفه- مُعَدِدًا الخسائر في الأرواح والمبانى، وأشار إلى إنهيار أنظمة الرعاية الصحية إثر تدمير المستشفيات، كما أشار إلى مخاطر التهجير ودفع المدنيين قسرًا إلى النزوح تحت نير القصف المتواصل، ثم توقع إنهيار النظام العام برمته، الأمر الذى يجعل من وصول المساعدات الإنسانية ضربًا من ضروب المستحيل بما ينطوى عليه ذلك من إنتشار للأوبئة، واصِفًا المأساة الإنسانية هناك بأنه “لا مكان آمنًا في غزة”.
تنص المادة 99 التى تأتلف من سبعة عشر كلمة فقط على: “للأمين العام أن يوجه إنتباه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها تهدد صَون السلم والأمن الدوليين”. يخشى السيد جوتيريش من توسيع الصراع، ليتمدد أقليميًا بدخول جهات أخرى على الخط كلبنان والعراق واليمن بما يضع المنطقة برمتها في مأزق عظيم، فبالإضافة إلى ما قد وقع بالفعل ومازال يقع من جرائم إبادة جماعية نتج عنها إزهاق للأرواح البريئة، سيتأثر الإقتصاد والتجارة وما يرتبط بهما من مكونات كالطاقة والغذاء اللذين يشهدان أزمة فى الوقت الحاضر ستزداد إستفحالًا. تجدر الإشارة إلى أن إستخدامًا للمادة 99، التى تصفها أدبيات الأمم المتحدة بأنها مادة وقائية/حمائية/مانعة Preventive، قد حَدَث مراتٍ محدودة في عصر ما بعد الحرب الكونية الثانية، إذ إستخدمها السيد داج همرشولد الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، لتحذير المجتمع الدولى من مَغَبة أحداث العنف الدامية في الكونغو في بداية ستينات القرن الماضى، ليُغتال بحادث طائرة كانت تُقِلُهُ في مهمة للسلام بالكونغو في سبتمبر 1961. كما إستخدمها السيد خافيير بيريز دى كويار الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة في 1989 إبان الحرب اللبنانية، حين خرجت أوضاع قتال الأطراف المتصارعة على الأرض اللبنانية في ذلك الوقت عما يمكن تَصَوره، ليعيد السيد أنطونيوجوتيريش إستخدامها في 6 ديسمبر 2023.
بدا السيد جوتيريش،الذى شهد العالم في عهده كوارث وأزمات إنسانية غير مسبوقة، كما لو كان قد فقد كل أمل في إستخدام ما هو مُتاح من وسائل وأدوات تتوافر لديه بِحُكم منصبه، لأجل وقف شلال الدم التاريخي الذى إنفجر منذ خمس وسبعين عامًا لكنه تجاوز كل حدود العقل فيما تلى السابع من أكتوبر، في ظل دعمٍ مُطلقٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لما يجرى من أعمال الإبادة الجماعية على يدى السفاح نتانياهو والزمرة الحاكمة بالدولة الصهيونية. بدا السيد جوتيريش كما لو كان قد فقد الأمل في إستمرار منظومة القيم الدولية التى نشأت بعدما وضعت الحرب الكونية الثانية أوزارها، فلجأ إلى الخطوة الأخيرة قبل الإنهيار التام لتلك المنظومة. بدا الرجل كما لو كان يريد إبراء ذمته أمام التاريخ ببيانِ ماحدث، وما يتوقع حدوثه. أنهى السيد جوتيريش خطابه بعدما أدان حماس -بالطبع- بقوله: “تقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية إستخدام كل ما في جعبته من نفوذ لمنع المزيد من التصعيد ولوضع حد لهذه الأزمة. إنني أحثّ أعضاء مجلس الأمن على ممارسة الضغط لدرء حدوث كارثة إنسانية. وأؤكد مجددًا مناشدتي للإعلان عن وقف إطلاق النار لدواعٍ إنسانية. فهذا أمر مُلحّ. ينبغي تجنيب السكان المدنيين المزيد من الأذى. فمع وقف إطلاق النار، يمكن استعادة وسائل البقاء ويمكن إيصال المساعدات الإنسانية على نحو آمن وفي الوقت المطلوب في جميع أنحاء غزة.”
في المقابل، تداولت وسائل إعلام غربية يوم الخميس الماضى، خبرًا مفاده أن الإدارة الأمريكية قد أوعزت إلى نتانياهو بضرورة إنهاء الغزو البرى وما يرتبط به من أعمال عسكرية في حدود مدىً زمنى لا يتجاوز الأسبوع الأول من يناير 2024. في الوقت الذى نَفَت فيه بعض المصادر صحة هذا الخبر، قامت أمريكا في اليوم التالى لنشر الخبر، بإستخدام حق الفيتو رفضًا لمشروع قرار بمجلس الأمن لوقف إطلاق النار في غزة، وإمتنعت بريطانيا عن التصويت بحجة أن القرار لم يُوَجِه إدانةً إلى حماس. في هذا السياق، ولما كانت أمريكا ضالعةً المشاركة في جريمة الإبادة الجماعية تمويلًا وعتادًا ودعمًا سياسيًا، يمكننا فهم المدى الزمنى الممنوح من إدارة بايدن (إن كان الخبر صحيحًا)، بإعتباره ضوءًا أخضرًا للسفاح نتانياهو لتكثيف وتركيز هجماته البربرية بغرض القضاء الكامل على المقاومة وتحويل غزة إلى مكان تستحيل فيه الحياة بحلول الموعد الذى حددته الإدارة الأمريكية، تحقيقًا لحُلم إسحق رابين بأن يصحو من النوم ليجد غزة وقد إبتلعها البحر.
سواء كان خبر المدى الزمنى صحيحًا أم كان غير ذلك، فالمؤكد أن الأيام المُتبقية من هذا العام ستكون حاسمةً في تاريخ الصراع بالمنطقة الذى قد يمتد نطاقه لأبعاد بالغة الخطورة، إلا إن وُجِد بهذا العالم من يُصغِ لمخاوف السيد جوتيريش.
* https://www.un.org/ar/situation-in-occupied-palestine-and-israel/sg-sc-article99-06-dec-2023