يؤثر عن المرحوم الأستاذ محمد حسنين هيكل، أنه قال لبعض القادة من حركة حماس الذين زاروه في مكتبه بالقاهرة، إن عيبكم الوحيد، أنكم ظهرتم في الزمن العربي الخطأ، أي أنكم ظهرتم في الوقت الذي تخلى فيه جميع العرب عن اختيار المقاومة، ضد إسرائيل، وأضاف أن العرب أيضا هم الذين تكفلوا بإقناع القيادة الفلسطينية الرسمية، أي منظمة التحرير بإسقاط هذا الخيار مثل الجميع.

في أغلب الظن، أن الأستاذ هيكل لم يكن يقصد بهذا الحديث نصح حماس، بالتخلي بدورها عن المقاومة، خاصة أن هذا الحديث دار عقب اتخاذ آرييل شارون قرار الانسحاب العسكري، وسحب المستوطنين من غزة من جانب واحد في عام ٢٠٠٥، تحت ضغط المقاومة، ولكنه كان- على الأرجح- يفتح أعين الحركة على المخاطر الجسيمة التي تواجه اختيارها؛ لاستئناف الكفاح المسلح طريقا؛ لاسترداد الحق الفلسطيني، وهي المخاطر التي سرعان، ما أطلت بوجهها القبيح، حين انفجر الصراع بين حماس، وبين ممثلي السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، واندلعت حرب أهلية؛ أسفرت عن طرد السلطة بالكامل من القطاع، واستيلاء حماس منفردة على السلطة هناك، ليترتب على ذلك انقسام حاد في قيادة، وتمثيل الشعب الفلسطيني، وسقوط كل ترتيبات دخول وخروج الأشخاص والبضائع، وكل شيء تقريبا إلى القطاع ومنه، بحيث تحولت منطقة غزة كلها إلى أكبر سجن في الهواء الطلق على مدار التاريخ الإنساني كله.

مقتضى هذه السردية، هو أن حماس هي في الأصل ضحية التناقض بين الإجماع الإقليمي، والدولي على خيار السلام، ورفض العنف، وبين تخلي إسرائيل عمليا عن هذا الخيار السلمي؛ لتسوية القضية الفلسطينية وفقا لرؤية حل الدولتين، خاصة منذ مجيء بنيامين نتنياهو إلى السلطة منذ عام ٢٠٠٩، حتى وإن كانت حركة حماس لم تلتزم بقبوله بعد بصفة نهائية.

بالطبع فليس سرا، أن نيتينياهو كان حريصا على إبقاء حالة الانقسام الفلسطيني بين الضفة وغزة، باعتبارها أكبر حائل، دون تطبيق حل الدولتين.

وكان ذلك يتم بتسهيل، وصول الأموال القطرية على وجه الخصوص إلى حكومة حماس في غزة، كما هو معروف للكافة.

وبالطبع أيضا، لم يترك هذا الوضع لحماس كثيرا من البدائل، سواء في الاستراتيجية أو التكتيك، أو في نمط التحالفات، فاتخذت مقاومتها المسلحة شكل الهجمات الصاروخية الدورية على العمق الإسرائيلي، التي تتلوها عمليات ردع إسرائيلية جوا فقط، أو جوا وبرا ،دون أن يتغير شيء يذكر في الموقف العام.

في موقف يائس كهذا، قد لا تكون المساحة الفاصلة بين الحسابات الاستراتيجية الرشيدة، وبين المغامرة أو الرهان غير مضمون النتائج واضحة دائما، وهذا هو التفسير المنطقي الوحيد؛ لعدم توقع قيادات حماس هذا الاجتياح العسكري الإسرائيلي الشامل بالغ العنف والإجرام، ردا على هجوم مقاتلي الحركة على أهداف عسكرية، ومدنية إسرائيلية في منطقة غلاف غزة في السابع من أكتوبر  الماضي، فالأرجح وفق كل المطلعين، أن تلك القيادات كانت تراهن، على أن إسرائيل ستنفذ ضربات انتقامية جوا مع سلسلة من التوغلات البرية المحدودة، ثم يتدخل الوسطاء المعتادون، أي واشنطن والقاهرة والدوحة؛ لترتيب صفقة تبادل أسرى، باعتبار أن هذا التبادل هو الهدف السياسي المعلن تقريبا من جانب حماس لعملية طوفان الأقصى، ثم إقرار هدنة جديدة.

وليس نطاق الهجوم الإسرائيلي المكاني غير المحدود، ولا إطاره الزمني غير المنظور، هما فقط ما جاء مخالفا لرهان قادة حماس، ولكن أيضا فوجئ الجميع، وكاتب هذه السطور منهم بحدة، وشراسة واتساع المساندة الأمريكية لإسرائيل في هذه الحرب سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا، لدرجة تحدي العالم كله، بمنع مجلس الأمن من إصدار قرار بوقف إطلاق النار في (منتصف الشهر الثاني من الحرب!!!)

لقد بدأت بعض الأصوات الفلسطينية غير المتهمة بالولاء للسلطة في التشكك في سلامة حسابات قرار تنفيذ عملية طوفان الأقصى، وعلى حد تساؤلات هؤلاء، فهل كان تحرير الأسرى الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية يستحق دمار قطاع غزة بأكمله، واعتقال فلسطنيين أكثر، ممن هم في الأسر حاليا، ومقتل أكثر من عشرين ألف فلسطيني، بينهم خمسة الآف طفل، وهل لو أن الأسرى سئلوا، كانوا سيقبلون ذلك السيناريو؟ كل هذا بجانب نزوح أكثر من مليون ونصف من المواطنين، مع استمرار المخاوف من الترحيل الجماعي الي خارج القطاع، وربما الضفة.

بالطبع، فكل هذه الانتقادات لا تمس مبدأ الحق في مقاومة الاحتلال، ولا تنفي قط احترامنا؛ لتضحيات الشهداء والمقاومين، ولكنها تدور حول تقييم هذه الجولة من الصراع بين الحسابات الرشيدة، وبين الرهان غير مضمون النتائج، أو بمعنى آخر المغامرة التي تساوي القفز إلى المجهول، مع أنه لا يوجد شيء مجهول في حالة إسرائيل، خاصة تحت قيادة حكومتها الحالية.

كذلك تروج حاليا شكوك حول ترتيبات اليوم التالي، ولكن هناك إجماع على توقع عدم مشاركة حماس في حكم غزة، حتى وإن لم تنجح إسرائيل في القضاء عليها عسكريا، وهذا أيضا محل اتفاق عدد كبير من المراقبين، بل والرسميين من أصدقاء إسرائيل الذين يعترفون باستحالة القضاء على حماس، مهما تبلغ درجة ومدى العنف الإسرائيلي زمنيا.

ليست حماس هي الطرف الوحيد في هذا الموقف الذي وضع رهانات خاطئة، ظنا منه إنها حسابات دقيقة، فإسرائيل تحت قيادة نتنياهو أيضا، أقدمت على سلسلة من الرهانات البائسة، في مقدمتها إضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية – بكل الوسائل-  ونزع المصداقية منها لحساب حماس، والعمل على إدامة حالة الانفصال بين غزة والضفة الغربية، باعتبار أن ذلك أقصر طريق؛ لمنع تطبيق حل الدولتين.

لايقل عن ذلك بؤسا، تحديد الهدف الاستراتيجي من الحرب الحالية، وهو القضاء على حماس سياسيا وعسكريا، بالإضافة إلى تحرير المحتجزين لدى حماس، منذ السابع من أكتوبر، ومع مرور الوقت، دون دلائل على قرب تحقق الهدفين، بدأت أيضا الشكوك تنتاب المراقبين، والمعلقين سواء من الإسرائيليين، أو صدقاتهم الأمريكيين، فكتب شلومي إلدار في صحيفة هآرتس يقول: توقفوا عن الحديث عن اليوم التالي، لأن حماس باقية، ولن تذهب لأي مكان، وكتب رفيف دروكر، إن إسرائيل أمامها خيار واحد، هو مساعدة سلطة فلسطينية شرعية في غزة، في حين كتب توني مارون، ودانييل ليفي، في مجلة ذا نيشن الأمريكية يقولان، إنه رغم كل العنف الجامح، فإن إسرائيل لم تحقق أهدافها السياسية، كما كتب جون ألترمان، أحد صقور مركز واشنطن للدراسات الاستراتيجية والدولية يقول، إن إسرائيل تواجه مخاطرة جادة بخسارة هذه الحرب، وذلك لأن معيار النصر والهزيمة يختلف ما بين الجيش النظامي، وبين المقاومة المسلحة، فهذه الأخيرة يكفيها ألا تنهزم؛ لكي تعتبر منتصرة، في حين يكفي الجيش النظامي، ألا ينتصر؛ لكي يعتبر مهزوما.

وسط هذه الحالة كثيفة الضبابية حول مسار الحرب ومداها الزمني، وحول ترتيبات اليوم التالي، وكذلك حول النتائج العسكرية والنتائج السياسية، فإن الشيء الوحيد المؤكد هو أن الشرق الأوسط أثبت من جديد، أنه إن لم تأت أمريكا إليه فسيذهب هو إليها آجلا أم عاجلا، بمعنى أنه لن يعود بوسع واشنطن تجاهل القضية الفلسطينية مرة أخرى في المستقبل المنظور.