ربما يكون من المتفق عليه في الأدبيات السياسية والدبلوماسية، أن الأوضاع الداخلية في كل دولة تنعكس على سياستها الخارجية، وطبيعة تفاعلها إقليميا ودوليا، من هنا، فإن الدبلوماسية السودانية واجهت مشكلات ومعضلات كبرى في هذا المجال؛ نتيجة تحولات النظم السياسية فيها، وعدم استقرارها وإنتاجها للعديد من الأزمات الإقليمية، خصوصا منذ تولي عمر البشير سدة حكم السودان، وسيطرة الإسلام السياسي على مفاصل الدولة السودانية.

في المقابل، فإن الموقع الجيبولتيكي للسودان بإطلالته على البحر الأحمر، وعضويته لنادي دول حوض النيل، وكذلك موارده المعدنية والزراعية، تعد عوامل دافعة للعديد من المصالح الإقليمية، والدولية ومواطن لجني الأرباح.

وطبقا للمعطيات عالية، فقد شهدت العلاقات السودانية العربية أكثر من توتر عنيف، خصوصا في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، حيث كانت أبو ظبي من ضمن عواصم عربية أخرى، كالقاهرة والرياض، وذلك على خلفية موقف نظام البشير في حرب الخليج الأولى، والذي انحاز فيه السودان للعراق ضد الكويت، وذلك على عكس مواقف العواصم العربية الأخرى.

في هذا التوقيت، شهدت الدبلوماسية العربية وقائع سحب سفراء وطرد دبلوماسيين، وكذلك تأميم المنشآت التعليمية، وتسيير مظاهرات، قادها حسن الترابي مهددة بقطع مياه النيل عن مصر، بل ووقوع ممارسات لها طابع عنيف على بعض أعضاء البعثات الدبلوماسية في الخرطوم، وكذلك حملات إعلامية، لها سمات سودانية غير معتادة المفردات في الأوساط الإعلامية، ضد أبو ظبي والكويت والرياض والقاهرة.

العلاقات السودانية الإيرانية، شهدت هي الأخرى مثل هذه الأزمات؛ نتيجة تحول الدبلوماسية السودانية من موالاة إيران في منتصف التسعينيات التي استدعتها الخرطوم على ضفاف البحر الأحمر للمرة الأولى؛ نتيجة أزمتها مع العواصم العربية إلى عدائها وطرد دبلوماسييها، وإغلاق الحسينيات الشيعية في السودان على خلفية تحولات نظام البشير نحو النظم الخليجية مرة أخرى، وذلك قبيل سقوط نظامه عام ٢٠١٩ بسنوات قليلة، وذلك قبل أن يعود التطبيع السوداني مع إيران قبل عدة شهور.
وبعيدا عن السياق الإقليمي، فإن السياق الدولي يبدو مؤثرا أيضا في بلورة التفاعلات الإقليمية، حيث شكلت الضغوط الأمريكية مؤخرا على دولة الإمارات سواء في الإعلام الأمريكي خصوصا، وكذلك توجهات الكونجرس مؤخرا الساعية؛ لممارسة ضغوط على أبو ظبي على خلفية اتهامات تنفيها أبو ظبي بدعم قوات الدعم السريع لوجستيا، وعسكريا من تشاد عبر أوغندا، إشارات مناسبة لصانعي السياسيات السودانية في هذه المرحلة بممارسة ضغوط موازية على أبو ظبي في ضوء خسائر الجيش السوداني العسكرية، واضطراره للانسحاب من إقليم دارفور، ربما تكتيكيا كما يعلن.

في هذا السياق، تعد الأزمة الأخيرة بين الخرطوم ودولة الإمارات، والتي بدأت بتصريحات عنيفة من جانب الفريق ياسر العطا، الرجل الثاني في الجيش والدولة السودانية في المرحلة الحالية ضد الإمارات، هي أزمة قد تكون عابرة، ولكنها مؤثرة بالتأكيد على مصالح أبو ظبي في السودان في ضوء، أن البعثة الدبلوماسية الإمارتية المغادرة الخرطوم هي بعثة كبيرة مكونة من ١٥ دبلوماسيا، وبالتالي فإن قدرة أبو ظبي على التواصل والتأثير على الأرض على الأقل في كل من الخرطوم وبورتسودان، وهما مراكز صناعة القرار سوف تتقلص، ولكنها لن تتأثر في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، وهو ما يفسر لنا المظاهرات التي خرجت في مدينة الضعين السودانية، تشكر دولة الإمارات وقائدها محمد بن زايد، على ما تم تقديمه لدولة السودان تاريخيا، خصوصا على صعيد الدعم الاقتصادي.

أما الخسائر على الصعيد السوداني، فربما يدفعها قطاعين: الأول هو، قطاع رجال الأعمال السودانيين الذين اتخذوا من الإمارات نقطة ارتكاز لأعمالهم؛ خصوصا في مجالي الاستيراد والتصدير؛ لتلبية بعض احتياجات السوق السوداني. أما القطاع الثاني فهو، الجالية السودانية الكبيرة الموجودة والعاملة حاليا في الإمارات، والتي تبلغ حوالي ربع مليون نسمة، وذلك إذا ما أقدمت أبو ظبي على معاقبة هؤلاء على موقف الخرطوم ضدها بالترحيل، وإنهاء عقود العمل أو الإقامات أو ما شابه، مما اعتدنا عليه في منطقتنا، حيث أقدمت الكويت على هذه الإجراءات ضد العراقيين في حرب الخليج الأولى، على أن مثل هذا الإجراء محفوف بمخاطر سلبية التأثير على الاقتصاد وقطاع الخدمات الإماراتي.

الدعم الإماراتي للسودان، كما هو لدول الإقليم، خصوصا بعد ثورات الربيع العربي، هو مشهود سواء بوادئع البنوك لإسناد النظام المصرفي، أو بالاستثمارات الضخمة في كافة المجالات، حيث شكلت حرب اليمن المطل على البحر الأحمر، ومورد الذهب والإمكانات الزراعية السودانية دوافع أساسية؛ لتوسع الأنشطة الاستثمارية الإمارتية في السودان، وكذلك ضلوع صندوق أبو ظبي للتنمية في اعتبار السودان أحد أهم محطات دعمه بالمساعدات في منطقة شرق إفريقيا، حيث تم تقديم منح بمقدار ٧،٣ مليارات دولار.

على نحو تفصيلي، لا بد من ذكر، أن دولة الإمارات قد أنشأت في وقت مبكر طريقا، يربط ميناء بور تسودان بالعاصمة الخرطوم بطول ٦٠٠ كليو متر، كما قدر مركز شاف للدراسات المستقبلية بالقاهرة حجم المساعدات، والاستثمارات من الإمارات للسودان بحوالي ٢٨ مليار دولار، منها، حيث تعمل ١٧ شركة إمارتية في مجالات استثمارية متعددة، كما قدمت الإمارات منفردة دعما للنظام المصرفي السوداني عام ٢٠١٨، يقدر بـ ٥ مليارات وربع المليار دولار، وقدمت أيضا مشتركة مع الرياض ٣ مليارات دولار إضافية عام ٢٠١٩ لذات الغرض، فضلا عن توريد ١٤٠ فعلي طن من القمح؛ لتلبية الاحتياجات الغذائية، وكذلك دعم قطاع الطاقة السوداني بـ ٣،٢ مليارات دولار عبر توريد الديزل بواسطة شركة أدنوك، اعتبارا من عام ٢٠١٧، وفضلا عن ذلك كله كان لدولة الإمارات دورا مشهودا في دعم السودان على المستوى الصحي، خصوصا وقت جائحة كورونا، حيث أنشأت أكثر من مستشفى ميداني في مناطق مختلفة، كما استضافت رموزا سودانية مرموقة؛ لعلاجها من الجائحة السوداء.

في المقابل، فإنه من غير المعروف على وجه الدقة حجم موارد دولة الإمارات من معدن الذهب السوداني، الذي هو أحد اهتماماتها بالذهب الإفريقي عموما، وسبب أيضا في تصنيف أبو ظبي المتقدم في بورصة الذهب العالمية ،حيث لعبت العلاقة العضوية بين حميدتي والإمارات على خلفية حرب اليمن دورا كبيرا في حصول الإمارات على الذهب السوداني، حيث يسيطر حميدتي على ٣ مناجم ذهب كبيرة في دارفور وغرب السودان، وكذلك يمارس المواطنون السودانيون التعدين الأهلي للذهب في مناطق شرق السودان بعيدا عن سيطرة الحكومة، فطبقا للكثير من المصادر والتقارير الإعلامية، خصوصا صحيفة الجارديان البريطانية في عامي ٢٠٢٠ و٢٠٢١، فإن تصدير الذهب السوداني هو بعيد عن الموازنة العامة السودانية، خصوصا في الفترة الأخيرة من نظام البشير الذي أطلق يد قائد الدعم السريع في هذا القطاع، وسمح له ببيعه خارج موازنة الدولة حتى للبنك المركزي السوداني بأسعار تفضيلية!!!

في هذا السياق، نرى أن الأزمة الدبلوماسية بين السودان ودولة الإمارات، ليست هي الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة في تاريخ الدبلوماسية السودانية، مالم يتحقق توافق وطني سوداني داخلي، يؤسس لوقف الحرب، ويبلور صيغة نظام سياسي قابل للاستقرار، ينعكس دبلوماسيا في سياسيات متوازنة بين مصالح إقليمية ودولية متشابكة.