من اقتحام الحملة الصليبية الأولى مدينة القدس في 15 يوليو 1099م إلى تكتل أوروبا في صف واحد مع إسرائيل في حربهم؛ لإبادة المقاومة الفلسطينية، وتدمير غزة، واقتلاع أهلها من جذورهم، وتهجيرهم من ديارهم، بين التاريخين قريب من ألف عام، تواصلت فيها هجمات الغرب على الحضارة العربية الإسلامية شرقاً وغرباً من الهند حتى إسبانيا، وكانت منطقة القلب التي باتت تعرف بالشرق الأوسط، هي الهدف الأول ثم الهدف الأخير، بدأت الألف عام بالحروب الصليبية في شرق وشمال المتوسط، ثم الهجمة الكاثوليكية على مسلمي إسبانيا في الغرب، ثم تطويق الحضارة الإسلامية من الأطراف عبر الكشوف الجغرافية، ثم العودة من جديد إلى منطقة القلب مع الاستعمار الأوروبي الحديث، ثم كانت ذروة ذلك التاريخ من العدوان، هو إجماع الغرب على تأسيس إسرائيل، ثم إجماع الغرب على كفالتها ورعايتها، وضمان تفوقها العسكري على كل المنطقة من عرب وغير عرب، ضمان تفوق إسرائيل عليهم مجتمعين.
في الألف عام، كانت الحضارة العربية الإسلامية في موقف دفاع انهزمت، وانتصرت، وتبادلت مع الغرب الهزائم والانتصارات. أما الحضارة الغربية، فكانت في موقع المبادرة، كانت من يبدأ، وكانت من ينجح، أو يفشل، فيجدد المحاولة، ويستعيد المبادرة.
هذا صراع معقد ممتد، إسرائيل فيه محطة عابرة وطارئة، الغرب لا يحب اليهود، مثلما الغرب لا يحب العرب، الغرب لم يفرق بين اليهود، والعرب في التنكيل بهما معاً، حدث ذلك مع يهود المشرق أثناء الحروب الصليبية، ثم حدث مع يهود الغرب أثناء الهجمة الكاثوليكية على عرب إسبانيا.
الصراع القائم سابق على قيام إسرائيل، وهو باق بعد زوال إسرائيل، يعلم الغرب، أن طبيعة الحضارة العربية الإسلامية تقبل التعارف بين الشعوب، لكنها- كعقيدة وشريعة وأخلاق وتراث وذاكرة تاريخية- لا تقبل الخضوع؛ لمنطق القوة المعتدية بغير حق، ويعلم الغرب- وهو الأكثر احتكاكاً- بمنطقتنا أن الممالك والإمارات، و الدويلات الصليبية التي أقامها أسلافهم في القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين، قد زالت وبادت.
إسرائيل لا تختلف، ومصيرها لن يختلف- ككيان صهيوني غريب عن حضارة المنطقة- عن المصير الذي آلت إليه الكيانات الصليبية، ثم لن يختلف عن المصير الذي انتهت إليه الموجة الاستعمارية الحديثة.
نقطة في صراع الألف عام، تسبق اقتحام الصليبيين للقدس بقرن على الأقل، إذا كانت القدس قد سقطت عند خاتمة القرن الحادي عشر الميلادي، فإن جذور هذه الواقعة تعود إلى نهاية القرن العاشر الميلادي، تعود إلى نقطتين:
1- النقطة التي عندها وصلت الحضارة العربية الإسلامية إلى أعلى ذراها، ثم بدأت تنزل عن الذروة بالتدريج، حتى وصلت إلى الأفول، ثم تطورت إلى التبعية، ثم هي اليوم تعيش لحظة ضياع، وفقدان همة وهوية ووجهة وبوصلة.
رحلة الأفول بدأت بالانقسام، ثم الصراع بين أكبر عاصمتين، عاصمة العباسيين في بغداد، وعاصمة الفاطميين في القاهرة، تم استنزافهما معاً، وتداعت السلطة المركزية في كلتا الدولتين، وانتقلت السلطة من الخلفاء إلى الوزراء، واستقل الوزراء بالقرار، وفسدت السلطة، وتحللت الدولتان، واستقل من شاء من الولاة، بما تحته من ولايات، كان الخليفة العثماني لا تتجاوز سلطته بغداد، وكان الخليفة الفاطمي- الذي كانت القدس- تحت زعامته أعجز من أن يملك أمر نفسه، كانت حلب وهي إذاك من أعظم الحواضر دولة، وكانت دمشق دولة، وكانتا تتصارعان، وكان الصراع بينهما أولوية تسبق الصراع مع الصليبيين، كانت الحضارة العربية الإسلامية في طور التفكك.
وقد وصف الدكتور طه حسين في ص 42، وما بعدها من كتابه” تجديد ذكرى أبي العلاء” وهو أول رسالة دكتوراه، تناقشها وتمنحها الجامعة المصرية عام 1914م، وصف هذا التفكك، بأنه بلغ ذروته قبل نهاية القرن العاشر فيقول: “ولم تأت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة هجرية- أي ما بين 945 – 946 ميلادي- حتى كان ضعف الخلفاء قد بلغ أقصاه، وبدأ عصر الدول المتفرقة، والممالك المتباينة، منها دولة الديلم في العراق وفارس، دولة العلويين في طبرستان، الدولة السامانية فيما وراء النهر، ودولة آل سبكتكين في الهند وأفغانستان، ودولة الحمدانية في الجزيرة، ودولة آل الإخشيد في مصر، ثم الدولة الفاطمية في إفريقيا، وقد ملكت مصر والشام وبلاد العرب”.
2 – النقطة الثانية- وهي عكس النقطة الأولى- وهي أنه في الوقت الذي كانت فيه الحضارة العربية الإسلامية عند الذروة، وتوشك أن تبدأ انحدارها الطويل، كانت حضارة غرب أوروبا في أشد لحظاتها ظلاماً، وتوشك على بداية الصعود، بينما كان العالم الإسلامي، ينزل عن القمة، ويبدأ رحلة تخلفه الطويلة المستمرة حتى اليوم، وكان غرب أوروبا يبدأ رحلة تقدمه الطويل المستمرة حتى اليوم.
في ص 313 من كتابه”التاريخ الوسيط” يقول نورمان ف . كانتور: “في منتصف القرن العاشر، كانت غرب أوروبا منطقة متخلفة فقيرة بالمقارنة مع الحضارتين العربية والبيزنطية، لكن بعد ذلك بمائة عام- أي قبيل الحروب الصليبية- كانت الحضارة البيزنطية تدخل طريقها الطويل صوب السقوط، كذلك كانت الحضارة العربية إلى قمة ازدهارها السياسي والثقافي، على حين كانت أوروبا العصور الوسطى على أعتاب عصر الإبداع والتقدم. كما كانت الشعوب الأوروبية قد بدأت توغلها الاقتصادي والسياسي في عالم البحر المتوسط”.
ثم يقول في ص 315 “بعد القرن العاشر الميلادي، أصبح ضعف التراث السياسي العربي أكثر وضوحاً، إذ كانت المؤسسات السياسية الإسلامية القائمة آنذاك هي بالضبط مؤسسات الطغيان، والاستبداد الشرقي، ويتميز التاريخ السياسي للإسلام في أواخر العصور الوسطى بعدم مسئولية الحاكم عن رفاهية الرعية، كما يتميز بكثرة ثورات القصر التي هي من لوازم هذا النمط من النظام الإسلامي، وقد تفشى عدم الاستقرار السياسي في النصف الأول من القرن الحادي عشر- وهو القرن الذي اندلعت في خاتمته الحروب الصليبية- وتسبب عدم الاستقرار في إهمال أنظمة الري، وهي الأنظمة التي كانت قد قامت عليها رفاهية، ورخاء الحضارة العربية الإسلامية”.
ثم في ص 316 يقول: “ومع ذلك، فإن العالم الإسلامي عند عام 1050م، لم يكن قد دخل بعد مرحلة التدهور العميق، فقد كان المستقبل ما زال يُخبئ له بعض أعظم إنجازاته العسكرية والفكرية، كذلك كانت التجارة الإسلامية لا تزال لها السيطرة على البحر المتوسط في القرن الحادي عشر الميلادي، لكن أعظم أيام الإسلام كانت قد ولت، كما أن قوة الحضارة الإسلامية قد بدأت، تنزل عن مستواها الإبداعي”.
ثم يختم بالقول: “هذه النقائص- أوجه النقص- التي شابت الحضارة الإسلامية، هي السبب وراء عدم قدرة العرب على منع الشعوب الأوروبية من التوغل في عالم البحر المتوسط في القرنين العاشر والحادي عشر” .
في عصور لاحقة، اجتهد الزنكيون، ثم الأيوبيون، ثم المماليك، ثم العثمانيون في إيقاف هذا التوغل الأوروبي، لكن- في النهاية- انكسرت الدفاعات الإسلامية، لسبب أساسي، وهو أن الحضارة العربية الإسلامية فقدت الهمة، والدافع والروح التجديدي والفكر النقدي، واستنامت للراحة والدعة حد الكسل، بينما تجلت الروح الغربية في توثب دائم، وثورة في كل الاتجاهات، وحركة على كل الجبهات.
في ص 3 من كتاب “بروميثيوس طليقاً ” ترجمة الدكتور لويس عوض، يقول المؤلف بريسي شيلي: 1792- 1822م” عندما كانت الإمبراطورية العربية في عنفوانها سدت على أوروبا طرق التجارة مع الشرق، إذ كان الجزء الأكبر من البحر المتوسط ملكاً للحضارة العربية، وبذلك انحسرت أوروبا إلى شواطئها، وتضاءلت ثروتها، واضمحلت مدنها، وتحولت فترة كبيرة من الزمان إلى مزرعة كبيرة، يملكها أمراء، ويزرعها عبيد، كانت ثقافة أوروبا ثقافة ريفية خالصة، بكل ما في ثقافة الريف من محاسن ومساوئ، وكانت مساؤها تربو على محاسنها بطبيعة الحال”.
ثم يقول: ” حتى دب الفساد في دولة العرب، أحس الأوروبيون، أن الجدران الفاصلة بينهم، وبين منافسة العرب، قد بدأت تتصدع في القرن العاشر الميلادي، فجمعوا صفوفهم تحت لواء الكنيسة، وشن العالم المسيحي حروباً داميةً على العالم الإسلامي، بغية السيطرة على الشرق الأوسط”.
وهذا هو بيت القصيد: الصراع على الشرق الأوسط، قبل وجود إسرائيل، وبعد زوال إسرائيل.
وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.