لم يتوقف البعض عن اتهام الديمقراطية، بأنها لم تسعفنا في مواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة، كما أكد البعض الآخر، أن لا معنى لاحترام القانون في هذا العالم؛ لأن هناك دولة احتلال مثل، إسرائيل فوق القانون والشرعية الدولية.

والحقيقة أن الاتهام الحقيقي يجب، أن يوجه لمن تخلوا عن مبادئ الديمقراطية، والقانون وليس لهذه المبادئ التي تدين كلها جرائم إسرائيل، وتطالبها بوقف إطلاق النار، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة وفق قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية.

صحيح أن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي أول أمس حول رفض حل الدولتين الذي نصت عليه قرارات الأمم المتحدة، تمثل أكبر استهانة بالقانون والشرعية الدولية، خاصة إنه لم يكتف بذلك، إنما أعلن أيضا رفض مسار أوسلو الذي مثل الاتفاق السلمي الوحيد بين الدولة العبرية والفلسطينيين، واعتبره إنه يمثل خطرا على إسرائيل مثل عملية 7 أكتوبر التي صنفتها عملية “إرهابية”.

والحقيقة أن السؤال الذي يجب مناقشته في العالم العربي، ليس جدوى الديمقراطية والقانون؛ لأن مبادئ دولة القانون والديمقراطية هي مبادئ عالمية، حتى لو كان الغرب أسس نظمه الحديثة على أساسها، إلا أنها تظل مبادئ، يمكن أن تتبناها كل الدول والمجتمعات والثقافات، وليست حكرا على الدول الغربية، كما جرى في بلدان كثيرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، والتي اختارت كثير منها،  أن تقطع علاقتها مع إسرائيل أو تسحب سفراءها من هناك، وهو ما لم تفعله بعض البلاد العربية، ولم يعن تبنيها للنظام الديمقراطي، أن تكون مثل البلاد الغربية، وتنحاز بشكل مطلق لإسرائيل، بل كانت على العكس داعمة للحقوق الفلسطينية.

والحقيقة أنه لا يجب، أن يربط البعض في العالم العربي قضية الانحياز الغربي الفج لجرائم الاحتلال الإسرائيلي؛ بجدوى أو جدارة النظام الديمقراطي ودولة القانون، إنما بمثالب النموذج الغربي بكل، ما يمثله من تاريخ استعماريين وليس قيم الديمقراطية، بحيث يمكن القول، إن مبادئ الديمقراطية ودولة القانون واحدة، وتطبيقاتها تختلف من دولة إلي أخرى، ومن سياق سياسي وثقافي إلى آخر، ولا يمكن فصل التاريخ الاستعماري للدول الغربية، ولا طبيعة النظام الأمريكي الذي تأسس على التطهير العرقي في مواجهة أصحاب البلد الأصليين، عن فهم أسباب هذا التحالف الاستراتيجي والمالي العسكري مع إسرائيل.

إن رفض المواقف الأمريكية الداعمة للعدوان الإسرائيلي على غزة، يرجع لأنها خانت مبادئ الديمقراطية والقانون وحقوق الإنسان، وليس لأن هذه القيم سيئة، يجب التخلي عنها، بل أن وجود هذه القيم كقاعدة للحكم في الولايات المتحدة،  والدول الأوربية سمح لمئات الآلاف من المواطنين هناك، أن يتظاهروا تضامنا مع أهل غزة، وهو ما غاب عن معظم العواصم العربية.

لقد تظاهر مئات الآلاف من البريطانيين أكثر من مرة في لندن؛ رفضا للاحتلال الإسرائيلي وتضامنا مع أهل غزة، بل أن مشاركة بعض رجال الشرطة المواطنين في هذه التظاهرات، هو أيضا حدث استثنائي وغير متكرر في العالم كله، ولولا النظام الديمقراطي العريق في بريطانيا، لما سمح لهؤلاء أن يمثلوا أداة ضغط قوية على حكومتهم؛ من أجل وقف إطلاق النار.

إن ضغوط الرأي العام في فرنسا دفعت الرئيس إيمانويل ماكرون، إلى تغيير موقفه وصوتت فرنسا في مجلس الأمن لصالح وقف إطلاق النار على خلاف الموقف الأمريكي الرافض، والبريطاني الممتنع عن التصويت.

إن النظم الديمقراطية ولو غير المكتملة في كثير من قارات العالم، هي التي أعطت الفرصة لملايين البشر، أن يتظاهروا ضد العدوان الإسرائيلي، فالتعددية المقيدة والهامش الديمقراطي الذي يتمتع به بلد عربي مثل المغرب سمح للمواطنين، أن يتظاهروا بمئات الآلاف في مختلف المدن المغربية تضامنا مع غزة، ورفضا للتطبيع مع إسرائيل، كما أن الكلام القوي الذي تحدث به أردوغان في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وسحبه لسفير بلاده كان يستند على شرعية انتخابات ديمقراطية، فاز فيها بحوالي 52 % من الأصوات، ومدعوم من تيار واسع من شعبه يؤيده، ونفس الأمر ينسحب على إندونيسيا وماليزيا.

أما تجارب الديمقراطية الناشئة مثلن شيلي والبرازيل وبوليفيا التي وصل فيها اليسار إلى السلطة في انتخابات حرة، فقد سحبوا سفراءهم من تل أبيب؛ لأنهم يمثلون يسارا اجتماعيا حقيقيا، مرتبط بالشعوب، وليسوا مجرد مروجين؛ لشعارات جوفاء منعزلة عن الواقع. أما جنوب إفريقيا، فقد طالب برلمانها بقطع العلاقات مع إسرائيل، ووصفت وزيرة خارجيتها ما تقوم به إسرائيل، بأنه جرائم حرب.

ورقة الضغط الأساسية في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، أصبحت الآن في يد الرأي العام الشعبي، وفي البلاد الديمقراطية، وأن النظم العربية غير الديمقراطية كان حضورها باهتا، ومحدودا في التأثير على مجريات الحرب في غزة.

إن سياسة الكيل بمكيالين، والمعايير المزدوجة هي آفات النظم الغربية الكبرى، بإرث معظمها الاستعماري، وليس له أي علاقة بقيم ومبادئ الديمقراطية، ودولة القانون واحترام حقوق الإنسان، والتي بفضلها، صححت كثير من هذه النظم من توجهاتها وراجعت مواقفها في قضايا داخلية، وخارجية كثيرة ومنها ظاهرة الاستعمار، والاعتراف بحق الشعوب في التحرر، فيما عدا فلسطين؛ نتيجة هذا التحالف “المقدس” مع إسرائيل.

علينا في مصر والعالم العربي، أن نستلهم تجارب الديمقراطية الناشئة في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا، والتي أسست نظمها الديمقراطية بالارتباط بخبرتها التاريخية والحضارية، واختلفت مع النظم الغربية في موقفها من حرب غزة (باستثناء حزب اليمين الهندوسي المتطرف الذي يحكم الهند)؛ لأنها لم تشاركه تاريخها الاستعماري، وكانت كلها جزءا من تجارب التحرر الوطني في العالم، وسمع العالم صوتها، سواء في الشارع أو في مجلس الأمن، مثلما فعلت البرازيل التي قادت أكثر من مشروع في الأمم المتحدة؛ لوقف اطلاق النار أوقفه الفيتو الأمريكي.

مطلوب إدانة المواقف، والتحيزات الغربية لإسرائيل، ليس لكونها نظم ديمقراطية، إنما لأنها تخلت، أو خانت جانبا من جوانب الديمقراطية، وهو تطبيق القانون على الجميع بصرف النظر عن العرق واللون والدين، وهي كلها مبادئ ديمقراطية تخلى عنها الغرب في غزة.