من حق الشخصيات العامة، باختلاف أوزانها وأدوارها، أن تسجل شهادتها على التاريخ، إذا ما كانت طرفا مشاركا في وقائعه وأحداثه.
ذلك يثري الحوار العام ويكشف بالوقت نفسه مساحات مجهولة، أو غامضة في تاريخنا الحديث.
هناك فارق جوهري بين الشهادة على التاريخ والثرثرة السياسية، التي لا تسندها وثائق معتبرة، أو معلومات موثوقة.
التاريخ لا يكتب على الهوى وفق المصالح المتغيرة على النحو الذي انتهجه الدكتور “مصطفى الفقي”، الدبلوماسي المخضرم وسكرتير الرئيس الأسبق “حسني مبارك” للمعلومات، ومدير مكتبة الإسكندرية السابق من فوق منصات وقنوات خليجية.
بدت شهاداته تخبطا، أفلت عن كل قيد أخلاقي، أو سياسي.
تجاوز بديهيات الأمن القومي في سلامة السيادة المصرية على سيناء.
طرح إمكانية إجراء مقايضات عليها، قبل أن يعود، ليقول إنه لم يشر إلى ذلك لا همسا ولا لمسا، وأن الانتقادات الحادة التي نالت منه محض شائعات وأكاذيب ومؤامرات عليه، رغم أن التسجيلات حاضرة وثابتة على شاشة فضائية سعودية معروفة.
أنكر الواقعة كلها، كأنها لم تحدث!
وهذا يفقد شهادته على التاريخ جديتها واحترامها.
ليس من حقه، لا هو ولا غيره، إبداء الاستعداد للتفاوض؛ بشأن مسألة، لا يصح فيها نقاش بأي درجة ولا على أي نحو، إذا كان هذا البلد يحترم تاريخه وسيادته على أرضه.
التخلي عن السيادة المصرية بدرجة أو أخرى، خط أحمر الكلام فيه محرم.
والتهجير القسري للفلسطينيين من غزة إلى سيناء جريمة تاريخية متكاملة الأركان.
قال بما نصه: “سيتوقف الأمر على المفاوض المصري”.
هذا يعني- أولا- أن مبدأ التفاوض على السيادة مقبول، أو يمكن النقاش فيه.
وهذا يعني- ثانيا- أن القبول المصري بنتائج أية مفاوضات قد يقترحها الأمريكيون؛ بشأن تهجير نحو مائة ألف مواطن فلسطيني، يتوقف على الأثمان المدفوعة كـ “إسقاط الديون”، و”حل قضية سد النهضة، بما يضمن احترام الجانب الإثيوبي لحقوق مصر التاريخية في مياه النيل”.
الصفقة التي يتوقعها، ويرى أنها تستحق التفاوض عليها، أن يكون ذلك كله مقابل الحصول على “شريط صغير”، لا يزيد عن (12) كيلو مترا داخل الحدود المصرية؛ لاحتواء المهجرين قسريا بترهيب السلاح الإسرائيلي!
وهذا يعني- ثالثا- التنازل واقعيا وفعليا عن جزء من الأراضي المصرية، في مخالفة صريحة للدستور، وتناقض فادح مع مقتضيات الأمن القومي.
ليس من حق أحد أن يفاوض، أو يقايض على الأراضي المصرية، أن يقبل أو يبدي استعدادا للقبول بمشروع التهجير القسري، أو تصفية القضية الفلسطينية بإعادة إنتاج نكبة (1948).
“إذا الأمر داخل أراضي مصر وحدودها وتحت سيادتها، فإنه لن يضير البلد استقبال أعداد من الفلسطينيين”.
المقايضة تعني المقايضة والتنازل يعني التنازل.
باسم من يتحدث “الفقي”؟
بدا السؤال طبيعيا في وقت حرب ضارية على غزة، ومشروعات إسرائيلية معلنة لدفع الفلسطينيين؛ للتهجير القسري هربا من حرب الإبادة والتجويع والتعطيش، واستهداف المستشفيات في قطاع غزة، حتى تكون الحياة مستحيلة.
هناك من تصور، أنه أطلق تلك التصريحات كبلونات اختبار لمدى؛ استعداد الرأي العام في مصر؛ لقبول مبدأ التفاوض على السيادة، أو التخلي عن جزء من سيناء مقابل أثمان مدفوعة.
لعله تورط في إجابة عشوائية على سؤال مفاجئ.
العشوائية من طبيعة إطلاق الأحكام بلا تحرز، أو تفكير.
بضغط ما، اضطر للنفي، لما صرح به علنا، حتى لا تفسر تصريحاته، على أنها تعبير عن حقيقة الموقف الرسمي!
كان ذلك التصريح بحمولاته السياسية المتفجرة، والنفي السريع بعده تعبير عن طبيعة شخصيته، التي تستغرقها الثرثرة السياسية بمناسبة، أو بغير مناسبة.
بالثرثرة السياسية الزائدة في وقائع، لم يكن طرفا فيها ولا شاهدا عليها، ولا كان منصبه يؤهله وقت حدوثها، ورط نفسه في مطبات تسيء إليه، ولكل ما له قيمة في مصر لصالح أطراف أخرى في الخليج، تطلب إعادة كتابة التاريخ السياسي والأدبي والفني من جديد.
نسب للزعيم الراحل “جمال عبد الناصر” احتساء “الدرنك” في بيت “أنور السادات”، كلما تردد عليه؛ للتخفف من ضغوط السياسة عليه.
كان ذلك تشهيرا بغير دليل للرئيسين السابقين.
هو رجل، يستمع إلى النميمة السياسية ويرويها، كأنه شاهد عليها، حتى تداخلت عنده الحقائق والتخيلات.
كانت تلك مأساة ثانية تضرب هذه المرة في سلامة الذاكرة الوطنية متبنيا معان، وسياسات ورؤى، تنطوي على تشويه صريح لثورة يوليو، كأنه يسوي حسابات معها، رغم أنه قضى عمره، يدعي أنه “ناصري”!.. وأنه صديق لأسرة “عبد الناصر”، كما كل الأسر الرئاسية الأخرى!
لماذا الآن؟ ولمصلحة من؟
هذا هو السؤال.
بأي نظرة عابرة على شهاداته الأخيرة في مواقع خليجية، تكشف أين ولاؤه الآن؟
عندما سئل عن رأيه، فيما قاله الدكتور “عبد الله النفيسي” من أن ثورة يوليو رعتها المخابرات الأمريكية، قال على الفور: “هذا كلام أوافق عليه، وأؤيده تماما”، مؤكدا بلغة العارف المطلع، أن هناك اتصالات وترتيبات، استبقت الانقلاب وأمنته من أي تدخل بريطاني، قد يجهضه.
بمجرد ذكر اسم “النفيسي” قال: “هو مفكر كبير اعتز به شخصيا”، دون أن يكون قد تابع سيرته الفكرية وتحولاته وانقلاباته، أو أن يعرف، أين يقف الآن؟!
لـ “النفيسي” حسابات من موقع إسلامي متشدد يسويها مع ثورة يوليو و”عبد الناصر”، لكن ما مصلحة “الفقي” في أن يؤَمن على كلامه، أو أن يردد اتهامات باطلة، لا دليل واحد عليها بحكم الوثائق البريطانية والأمريكية عن هذه الحقبة، التي أزيح عنها الستار منذ سنوات طويلة.
إذا كانت هناك وثيقة أمريكية واحدة تؤكد هذا الكلام، فليدلنا عليها.
في سبعينيات القرن الماضي، نشر الكاتب “جلال كشك” كتابا عنوانه: “ثورة يوليو الأمريكية” مستندا إلى كتاب رجل الاستخبارات الأمريكية “مايلز كوبلاند” “لعبة الأمم”، وقد فند الأستاذ “محمد حسنين هيكل” بالوثائق كل تلك الادعاءات.
بحكم الوثائق البريطانية، فإن الملك “فاروق” طلب التدخل العسكري البريطاني؛ لإجهاض التمرد عليه على نحو، ما فعله عمه الخديو “توفيق” عام (١٨٨٢)، لكنه لم يتلق إجابة.
بدا “فاروق” مذعورا- وفق برقية للسفير الأمريكي “جيفرسون كافري”، الذي أخذ يهدئه دون جدوى.
لم تكن هناك أية معلومات لها قيمة عن توجهات الحركة، ولا من يمسكون بزمام الموقف؛ فتبدت تناقضات في الاستنتاجات والتصرفات.
بقوة الوثائق الدامغة، فإن أي حديث عن صلة ما ربطت “الضباط الأحرار” بالاستخبارات الأمريكية محض كلام فارغ.
غابت بالكامل أية إشارات إلى “جمال عبد الناصر”، أو أي أحد آخر من مجلس القيادة باستثناء “أنور السادات”، واللواء “محمد نجيب”، الذي صدر البيان الأول باسمه.
جرت اتصالات لضبط ردات فعل البريطانيين، ولم يكن الأمريكيون في وضع يسمح لهم بتقدير موقف على قاعدة معلومات واضحة.
وفق الوثائق الأمريكية والبريطانية، لم تكن هناك أية معلومات ذات قيمة عن شخصية اللواء “نجيب” صبيحة (٢٣) يوليو، رغم أنه انتخب رئيسا لنادي الضباط في مواجهة صريحة مع رجال الملك، ورشح مرتين وزيرا للحربية في حكومتي “حسين سري” و”نجيب الهلالي”، غير أن الملك لم يكن مستعدا؛ لإسناد هذه المهمة إليه مبديا غضبه كل مرة من مجرد ذكر اسمه.
شهدت تلك الفترة إقالة وزارة “الوفد” برئاسة “مصطفى النحاس”، وتولى “علي ماهر” مقاليدها، ثم جاء الملك بـ “نجيب الهلالي” بعد شهر واحد، قبل أن يقيله هو الآخر في ظروف مريبة بصفقة مالية، بلغت مليون جنيه، دفعها “أحمد عبود”، وسجلتها برقيات السفارة البريطانية، ثم كلف “حسين سري” بحكومة رابعة، قبل أن يعود لـ”الهلالي”، لكن حكومته لم تتمكن من الاجتماع، فقد أطاحت “يوليو” باللعبة كلها.
جرى ذلك كله في أقل من سبعة أشهر.
بدا أن كل شيء يؤذن بالمغيب قبل أن تحل النهاية، وتطوى صفحة حكم أسرة “محمد علي”.
بأي تعريف كلاسيكي للانقلابات، فإن ثورة يوليو هي الانقلاب الوحيد في التاريخ المصري الحديث، حيث تمكنت مجموعة ضيقة من الضباط، تعمل في الخفاء، من التحرك بغتة لقلب نظام الحكم.
وبأي تعريف كلاسيكي للثورات، فإنها أيضا الثورة الوحيدة في التاريخ الحديث كله، حيث غيرت البنية الاجتماعية، والتوجهات الاستراتيجية بصورة كاملة لصالح الأغلبية الساحقة من المصريين، وبناء دور تحرري مصري قيادي في المنطقة، والعالم الثالث كله.
بثقة مفرطة، تهدر أية قيمة للتاريخ ووثائقه قال: “أن عهد فاروق قد ظُلم”.
نسب إلى ثورة يوليو كل الموبقات، ونزع عنها أدوارها وانجازاتها لصالح روايات أخرى، تتصور أن الوقت قد حان لقيادة المنطقة، وتصفية مشروع “عبد الناصر” كأمل، ما يزال يراود قطاعات واسعة في العالم العربي.
المراجعة بذاتها طبيعية، حتى تستقيم التصورات مع تراكم الخبرات والمعارف.
التشويه قضية أخرى، تستدعي السؤال عن توقيتها ومن ورائها.
فيما ادعى أن السيدة “تحية عبد الناصر”، فوجئت بالترحاب صباح كل يوم من الملك الراحل “فيصل”، أثناء تأديتها العمرة في الأراضي المقدسة، وأنها قالت له، “إنها لا تعرف، لماذا كان يعاديهم جمال؟”.
الانحياز بأثر رجعي للرواية السعودية تسطيح للتاريخ، وللدور الذي لعبته الرياض في حرب اليمن، كما دورها في إجهاض الحركة القومية العربية، التي كان يقودها “عبد الناصر” بالتعاون مع الولايات المتحدة، حسب تصريح أخير معلن لوزير خارجيتها السابق “عادل الجبير”.
وفيما ادعى، أن هناك مقبرة جماعية وجدت أثناء فترة حكم “مبارك” تحت السجن الحربي، وهو ما لم يشر إليه أحد آخر، هناك باليقين تعذيب، جرى في ذلك السجن وأخطاء، ارتكبت من مجموعة “شمس بدران”، لكن لم يشر أحد إلى مقابر جماعية.
هذا يستدعي لخطورته التساؤل عن حقيقته، وإذا ما كان “الفقي” لأسباب خفية، يطرح قضيةن لم تطرح أبدا بأي وقت، رغم الحملات المتصلة على عهد “عبد الناصر”.
وكان مستغربا تجاوز “الفقي” كل حقائق التاريخ المثبتة على الأسباب التي استدعت إعدام “سيد قطب”.
وصفه بـ”سجين رأي” قبل أن يردف “ما لم يكن قد تورط في عمل جنائي”.
لو كان أجهد نفسه بطلب الاطلاع على تحقيقات قضية (1965)، عندما كان يعمل في الرئاسة؛ لتمهل بعض الشيء قبل إصدار أحكامه.
بنزعة الثرثرة المفرطة، أساء إلى أسماء ورموز كثيرة بلا حصر، لا تملك بعد موتها، أن تصحح وترد، كوصف زوجة اللواء “الليثي ناصف” بـ”الخرف” لمجرد، أنها اتهمت “السادات”، بأنه يقف وراء قتله بالقذف من أعلى بناية في لندن.
التساؤلات والشكوك في ذلك الحادث ما زالت ماثلة حتى اليوم.
لم يجرؤ أحد من قبل على اتهام حرم قائد الحرس الجمهوري الأشهر في التاريخ العسكري المصري بتلك التهمة المتفلتة.
بعبارة “الفقي”، فإن بعض التصرفات تعبر عن أخلاق أصحابها.
الأمر يصح معه أكثر من أي أحد آخر.
افتقد الحد الأدنى من الاتزان، وأفرط في التشهير بكل ما له قيمة في مصر، خاصة سيدة الغناء العربي “أم كلثوم”، كأنه يصدق على كلام “صديقه النفيسي” بأنها: “سفيرة الفساد”!
إنها الثرثرة السياسية وكوارثها، التي تبدي الشجاعة بأثر رجعي أمام القبور، وتنحني بصورة كاملة أمام القصور، كما قال ذات مرة الأستاذ “هيكل”، الذي لم يسلم هو الآخر من إساءاته.