قديما قالوا البعرة تدل على البعير، والسير يدل على المسير، ونحن اليوم نقول: إن الطريقة التي اختار بها النظام المصري، أن تجرى بها الانتخابات الرئاسية، تدل على صيغة الحكم للفترة الرئاسية الجديدة التي تمتد إلى ٢٠٣٠، وربما بعدها.

كان أمام النظام صيغتان- برغم تأكد فوز الرئيس الحالي فيهما- لإدارة العملية الانتخابية: الأولى، تقوم على تحقيق حد أدنى من التنافس مع واحد على الأقل من المنافسين الحقيقيين، بما يضمن إمكانية تقديم بديل مدني لصيغة الحكم القائمة، ومقترحات بسياسات مختلفة عن المطبقة، وصرف جزء من الغضب الشعبي نحو تغيير سلمي تدريجي وآمن، وحافز لقطاع من الجماهير للمشاركة والتفاعل. اختار النظام الصيغة الثانية، التي تقوم على منافسين، يستكمل بهم الشكل لا أكثر. صرح اثنان من المرشحين، أنهما يدعمان الرئيس الحالي، أما الثالث- وإن حسب على المعارضة المدنية- فقد تم ترويضه، قبل أن يعلن ترشحه.

عندما اختار النظام استيفاء الشكل الدستوري على بناء الشرعية السياسية؛ فإنه بذلك يعلن ثلاثة أشياء في نفس واحد:

١- لا تغيير في السياسات الاقتصادية التي طبقت على مدار العقد الماضي.

٢- دفن السياسة بعد تمويتها لعشر سنين.

٣- استمرار صيغة الحكم التي أنتجت مأزقنا الوطني الحالي.

الانتخابات التنافسية، كانت فرصة: إما للتغيير الآمن، وإما التغيير طويل المدى، وإما الإصلاح الشامل، وإما المشاركة المؤثرة.

السياسات الاقتصادية

لم يعد هدف الانتخابات الرئاسية إلا توفير الشروط السياسية؛ لاستمرار السياسات الاقتصادية التي أفقرت المصريين. بمجرد انتهاء التصويت، سيراقب المحللون الماليون عن كثب الإجراءات التقشفية التي يعتقدون، أنها تم تأجيلها لما بعد الانتخابات. يتنازع المصريون في أيام الانتخابات الوقوف في طابور السكر أمام المجمعات الاستهلاكية، أو الوقوف في طابور الانتخابات الذي ربما يتحصلون منه على بعض الفوائد المادية. قالت ستاندرد آند بورز- وكالة التصنيف الائتماني الشهيرة- إنها تعتقد، “أن الانتخابات- المقررة في وقت أبكر مما كان متوقعًا في الأصل- يمكن أن تخلق مساحة سياسية للإصلاحات؛ لاستكمال السياسات الاقتصادية، بما في ذلك تخفيض قيمة العملة إلى ما يقرب من سعر السوق الموازية”.

تسببت سنوات من الاقتراض الهائل من الخارج في تراكم ديون خارجية ثقيلة على مصر، تبلغ ما يزيد علي ١٦٠ مليار دولار، ونقص في العملة الصعبة اللازمة؛ لشراء السلع الأساسية. تبلغ أقساط الديون المستحقة في عام 2024 على الأقل 42.26 مليار دولار- أعلى مستوى لها على الإطلاق، وفقًا لبيانات البنك المركزي.

توقعت وكالة رويترز في تقرير لها، أن أي تخفيض لقيمة العملة قد يؤدي إلى مزيد من التضخم الذي سيتراوح بين 34 و35 % حتى نهاية العام، ومع بداية الربع الأول من العام المقبل سنعود إلى نطاق 40 %؛ بسبب انخفاض قيمة العملة وتأثيراته العابرة.

يكافح أغلب المصريين، وسط ارتفاع معدلات التضخم؛ لتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة لهم ولأولادهم. يواجه ما يقرب من ثلث السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر، (يكسبون أقل من 3.80 دولارًا في اليوم) صعوبة أكبر في تغطية نفقاتهم، كما تضررت الطبقات الوسطى بشدة.

وبرغم تزايد الأنباء- بعد الحرب على غزة- عن وجود حزم جديدة من المساعدات والاستثمارات من أطراف عدة؛ إلا أن الكامن وراءها-كما ورد في تصريحات المانحين- هو الخوف من انزلاق الأوضاع إلى عدم الاستقرار. تحولت مصر، إلى أن تكون عبئا، يخشى من تداعيات فشله على مجمل الإقليم؛ في تأكيد لمقولة، “إنها أكبر من أن تفشل”.

الحرب الإسرائيلية على غزة، تعني أن “المزيد من الشركاء الدوليين سيكونون على الأرجح على استعداد؛ لتقديم دعم إضافي” -حسبما قالت كبيرة الاقتصاديين في بنك أبو ظبي التجاري مونيكا مالك لبلومبرج. وأضافت: “لا أحد يريد، أن يرى مصر تفشل الآن، أو أن تتفاقم الأوضاع الاقتصادية”. ذكرت تقارير أن الاتحاد الأوروبي يخطط لضخ استثمارات بنحو 10 مليارات يورو في مصر، إلى جانب تدابير؛ لتخفيف عبء الديون للمساعدة في استقرار اقتصاد البلاد، والحد من الهجرة عبر البحر المتوسط. أدى تصاعد حدة العنف في غزة إلى الاعتقاد في أسواق السندات، أن احتمالات التخلف عن السداد في تراجع؛ بسبب التوقعات بحصول مصر على مزيد من الدعم من المقرضين الدوليين. ولا يزال تداول السندات المصرية المقومة بالدولار في منطقة التعثر عند نحو 15%، لكن الفارق مع سندات الخزانة الأمريكية تقلص بشكل ملحوظ خلال الحرب، إذ انخفض بمقدار 200 نقطة أساس، منذ منتصف أكتوبر.

هكذا؛ حملت الأنباء أخبارا سارة للنظام، تدور حول استمرار قدرته على الاقتراض الخارجي، لكنها لا أظن تبهج كثيرا من المصريين؛ لأنها تتضمن مزيدا من الأعباء.

دفن السياسة

قُضي الأمر الذي كنا نستفتي فيه حول شكل المجال السياسي الذي كان للانتخابات، أن ترسم ملامحه.

بالطبع لم تكن للانتخابات أن تغير استمرار طابعه السلطوي؛ لكن السماح بقدر من التنافس الحر، من شأنه أن يفتح الباب تدريجيا لبناء مجال سياسي تعددي. بات من المتوقع استمرار هيمنة الرؤية الأمنية التي ترفض الاستعانة بالحياة السياسية المقيدة، كأداة لإدارة المسرح السياسي، ولتقويض المعارضة وتحجيمها، وترى في الحل الأمني طريقا آمنا، وأقل تهديدا للنظام، وحفاظا لمصالحها. اختيار الشكل الثاني في الانتخابات يعني: أن النظام متمسك بالمسار الرئيسي للسياسات السابقة، مع تعديلات طفيفة، لا تمس جوهرها، ومتمسك بسمات السياسة، كما أنتجها في العقد الماضي. استهدف جزءا معتبرا من الخطاب الرسمي نزع السياسة من خلال شجب أي أصوات بديلة أو مختلفة باعتبارها: غير عقلانية أو غير أخلاقية أو غير مسئولة أو حتى إرهابية، لأنها تتحدى الفهم الواجب للدولة وطريقة عملها، والإجماع المهيمن وحقائقه الموضوعية المفترضة.

كانت الانتخابات الرئاسية تتويجا لمسار طويل، بدأ بإعلان استراتيجية حقوق الإنسان في الربع الأخير من العام قبل الماضي، وعدد من المبادرات التي كان آخرها انعقاد جلسات الحوار الوطني. لم تنته هذه المبادرات جميعا لشيء. كان غرضها استهلاك الوقت على رغم ما يبدو عند إطلاقها من بريق.

في الربع الأخير من عام ٢٠٢١- سبتمبر تحديدا- صدرت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وفي أعقابها، تم مباشرة اعتبار عام ٢٠٢٢ عاما للمجتمع المدني في مصر، ثم كان إعلان الرئيس السيسي في إبريل من نفس العام عن الدعوة لحوار سياسي، ينظر في أولويات العمل الوطني في المرحلة الراهنة. صاحب إعلان الحوار السياسي إعادة تشكيل لجنة للعفو الرئاسي؛ وهي لجنة تكونت؛ لتقديم أسماء من المعتقلين السياسيين؛ لتنظر الأجهزة الأمنية في إطلاق سراحهم.

لم ينته العام حتى جرت الدعوة للمؤتمر الاقتصادي (أكتوبر ٢٠٢)؛ لمناقشة أولويات الإنفاق العام، ومراجعة السياسات الاقتصادية المطبقة على مدار السنوات الثماني الماضية. سبق المؤتمر دعوة الحكومة لحوار حول وثيقة سياسة ملكية الدولة، وهي وثيقة تعيد رسم دور الدولة في الاقتصاد، بما يسمح للقطاع الخاص، أن يحتل وزنا أكبر في الاقتصاد المصري، بعد أن تمدد فيه ما يطلق عليه المؤسسات السيادية.

ما أنتج هذه المبادرات جميعا، ليس استراتيجية واضحة؛ وإنما إجراءات لا رابط بينها، تتعامل مع سياق مأزوم وبالقطعة: ضغط دولي، نعلن استراتيجية حقوق الانسان. الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، يقتضي تدشين سياسة ملكية الدولة. أزمة اقتصادية، نشرع في الحوار الاقتصادي… وهكذا مبادرات غرضها الإشغال، ويحكمها منطق “اضحك تطلع الصورة حلوة”. هي تنجح في تحقيق غرضها المباشر: التقاط الصورة، لكنها لا تقدم فيلما محكم السيناريو والإخراج، يمكن أن تستمتع بالفرجة عليه.

الجديد وبتأثير مشهد النكبة الجديدة للفلسطينيين، هو أنه لا ضغوط دولية؛ لتحقيق بعض الإجراءات السياسية التي تساعد في غسيل السمعة للحكومات الغربية. انتفى تماما-ولو لحين- هذه الضغوط، وبرزت المساندة للتعامل مع المأزق الاقتصادي-كما قدمت. أصبح النظام متحررا من الضغوط الغربية، فيما يخص قضايا الديموقراطية وحقوق الانسان، ومن ملامح الجديد أيضا وبتأثير الموقف من الانتخابات، أن بقايا المعارضة خرجت منها منقسمة على ذاتها وأكثر هشاشة من قبل. أخرجتنا الانتخابات بلا بديل سياسي، يمكن أن ينافس السلطة، ومعارضة أشد انقساما.

مأزقنا الوطني

أورثتنا السياسات المطبقة على مدار العقد الماضي تهديدا وجوديا. الأمن القومي مهدد من كل جانب. هناك حربان مشتعلتان على حدودنا الجنوبية والشرقية، وأخرى قابلة للانفجار في أي وقت في جوارنا الغربي. إثيوبيا فرضت رؤيتها؛ لإدارة تدفق نهر النيل، وتحكمت في جريانه إلينا. أظهرت حرب غزة تقزما استراتيجيا غير مسبوق، وتهديدا إسرائيليا بالتهجير القسري لسيناء.

هل باتت مصر رجل المنطقة المريض الذي يخشى الجميع من انزلاقه إلى عدم الاستقرار؟

إن انتشار الفساد والمحسوبية في مؤسسات الدولة، وسيطرة ما يطلق عليه المؤسسات السيادية المتزايدة على الاقتصاد والمجال العام، وتآكل الفضاء المدني، واعتماد الدولة المفرط على الحلول الأمنية؛ لمعالجة التوترات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية… كلها عوامل ستساهم في عدم الاستقرار في البلاد.

يعاني المواطن من ضغوط الحياة التي تزداد وطأة يوما بعد آخر، وسوء الخدمات العامة، وتآكل مؤسسات الدولة، ونخب تجاوزها الزمن، واستقطاب سياسي وثقافي ومجتمعي، يجري تغذيته باستمرار، وعنف مجتمعي مرشح للتصاعد… هذه الأوضاع تتطلب تغييرا نوعيا في التعامل معها؛ لا تحسينا للسياسات المطبقة. ما أخشاه، أن الانتخابات أرسلت الرسالة الخطأ في الوقت الضائع.

في غياب تصحيح كبير للمسار؛ من الصعب تخيل تغير الوضع للأفضل.