كان التناول اليومي للصراع بالمنطقة على مدار العقود الماضية، يَتُم في معظم الأحوال، باعتباره صراعًا بين مجموعتين بشريتين متعارضتين بِحُكم- فقط- اختلاف “هوية” كلٍ منهما، سواء كانت قومية أو دينية، لا بِحُكم كونه صراعًا نضاليًا إنسانيًا حَقَقَتهُ على الأرض منظومة من التناقضات ذات الأبعاد السياسية، والاجتماعية والاقتصادية. صحيحٌ أن القومية والدين يُعتبران عنصرين مهمين ضمن مُكونات تشكيل الخلفية الثقافية التي يتأسس في ضوئها البُعد الاجتماعي؛ لتناقضات الصراع، لكن اختزال طبيعة تلك التناقضات فيهما فقط، هو أمر ذو خطر عظيم من شأنه، أن يُفَرِغ طبيعة الصراع من محتواها السياسي والاقتصادي، وما يتعلق بهما من تناقضاتٍ فرعيةٍ، تتبلور مظاهرها بين الاستقلال والاستعمار، التحرر والتبعية، الديمقراطية والاستبداد، والتقدمية والرجعية.

بعدما انهزم المشروع العروبي إثر كارثة يونيو 1967، وإن استمر في البقاء صامِدًا بقوة الدفع الذاتي لبضع سنين، تخللها الانتصار العربي الوحيد في أكتوبر 1973، بدأ المشروع الديني بِشَكلِهِ الهُوياتي، في الظهور مدفوعًا باستخدامٍ شديد السخاء لفوائض النفط، فيما اصطُلِح على تسميته آنذاك بالصحوة الإسلامية، كبديل للمشروع العروبي الذي تأكد انهياره بالكُلية في أغسطس 1990. في نفس الوقت، أدى نجاح الثورة الإيرانية في إقامة دولتها، التي تُدير- للمفارقة- شؤونها بنمط علماني، رغم تكوين بِنيَتِها الفكرية كدولة دينية، إلى توسيع نطاق هذا المشروع كبديلٍ وحيد بلا منافسة للمشروع العروبي المهزوم.

ساهمت الممارسات العنصرية للدولة الصهيونية التي تديرها الآن، مجموعة من أفراد العصابات المتطرفة، في ترسيخ المبرر الثقافي للمشروع الديني البديل، بسبب تصاعد حدة خطابها الديني الزاعق الذي مارست في ضوئه، أحقر أنواع العنصرية، بدءًا من الاقتحامات المتكررة التي كانت مجموعات متطرفة تقوم بها، تحت حماية قوات الجيش والشرطة، لحرم المسجد الأقصى وانتهاءً بقيام بعض عناصر الجيش بتلاوة تراتيل تلمودية داخل أحد مساجد مدينة جنين منذ أيام. على الجانب الآخر، أدى الضعف الشديد الذي أصاب منظومة الحكم الذاتي الفلسطينية؛ فأحَالَهَا إلى مجرد مؤسساتٍ بيروقراطيةٍ مُتَكَلِسَةٍ منتهية الصلاحية، إلى إفساح المجال أمام حركاتٍ أخرى، تُمثل امتدادًا فلسطينيًا للمشروع الديني، فأتاح لها كسب أرضية شعبية جارفة في غزة على وجه التحديد. بموجب تلك التطورات، كاد الصراع المحكوم بثنائية الهوية، أن يكتمل تحوله من صراعٍ قومي: عربي- صهيوني، إلى صراعٍ ديني: إسلامي- يهودي، عَزَزَهُ خطابٌ شعبوي، لم يَخلُ من استخدامٍ شكلي لمفردات التناقض، لا بغرض تبني تحليلٍ علميٍ يفضي إلى تحديدِ أدواتٍ؛ لإدارة الصراع، تتناسب مع طبيعته الحقيقية، ولكن لأجل تطوير استراتيجيات ذات أهداف مُغايرة.

بدت أعمال المُقاومة في 7 أكتوبر، كما لو كانت تعبيرًا عن اكتمال طابع الصراع ثنائيُ الهوية الدينية، فها هي المقاومة الإسلامية بجناحيها الأساسيين: حماس والجهاد، تقود الكفاح المسلح ضد المُحتل اليهودي، أو هكذا يَشي المشهد العام. في تقديري أن أعمال المقاومة الصامدة لمدة اثنين وسبعين يومًا مُرَشَحَةً للزيادة، هي بمثابة تَجَلي ذروةُ النضالات الشعبية المتراكمة عبر الزمن للشعب الفلسطيني بكافة فصائله، منذ الثورة الكبرى في 1936؛ سعيًا للحرية والحق والعدالة، وهي معانٍ وقيمٍ مُطلقة، تؤكد على أن طبيعة الصراع إنسانيةٌ بالأساس، خصوصًا إن أخذنا بالاعتبار، أن ممارسات الدولة الصهيونية قد خرجت عن نطاق التحرشات بالرموز الدينية الخاصة إلى ما يتعدى أعراف، وقواعد الحروب المُتعارف عليها دوليًا.

فمنذ يومين اثنين فقط، أكدت حكومة نتنياهو، على أن سلوكها الإجرامي، ليس مجرد رد على هجمات المقاومة، كما تزعم، بل هو عقيدة راسخة لديها، حين قامت قواتها بقتل ثلاثة من أبنائها، ممن كانوا أسرى لدى المقاومة، ثم تمكنوا من الهرب، فخرجوا رافعين الرايات البيضاء، هاتفين بالعبرية: “أنقذونا”، إلا أن قوات الجيش الصهيوني قامت بإطلاق النار عليهم؛ ظَنًا منها، أنهم يُشَكِلون “تهديدًا”، كما جاء ببيان الجيش الرسمي. “التهديد” لدى الدولة الصهيونية، لا يأتي إلا من صوب الفلسطينيين، وهو ما يتيح- في نهج الصهاينة- قتلهم حتى وإن رفعوا الرايات البيضاء، وكانوا بلا سلاح…إنه ببساطة، القتل ظَنًا.

انهارت سردية الصراع ثنائيُ الهوية الدينية في ضوء حقائق الواقع الإنساني الأليم بغزة، حيث تجاوزت ممارسات الدولة الصهيونية، كل التعاريف البيروقراطية للمذابح الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية واستخدام الأسلحة المُحَرَمَة، إلى ما لا يمكن للوثائق الأُممية الإحاطة به، أو حتى تكييفه قانونيًا، بما يستدعي توصيفات جديدة لجرائم ضد الإنسانية غير مسبوقة.

انهارت سردية الصراع ثنائيُ الهوية الدينية، وقد تطور إيجابًا إلى شكله الحقيقي، باعتباره صراعًا نضاليًا إنساني الطابع، يقتضي من كل المُهتمين بعدالة القضية الفلسطينية توصيفًا، وتحليلًا موضوعيين للتناقضات الداخلية؛ من أجل استخدام كافة أشكال المقاومة المُتاحة المُسَلَحة، والسياسية التي لا تخص فصيلًا بعينه، في تكاملٍ لن يتحقق إلا بالوحدة الوطنية بين القوى الاجتماعية الحية للشعب الفلسطيني.