بنسبة 66.8 % أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات حجم المشاركة في الانتخابات الرئاسية المصرية؛ لتصبح بذلك النسبة الأكبر والأعلى في كافة استحقاقات الاقتراع في الانتخابات المصرية، منذ أن عرف لصندوق الاقتراع مكانًا في حياة المصريين.
في الانتخابات الرئاسية التي جرت خلال عقد ونيف، كانت نسبة المشاركة متدنية أو متوسطة. ففي الانتخابات التعددية الأربع السابقة 2005 و2012 (دورين) و2014 و2018، كانت نسب المشاركة على التوالي (22.95 %) و(47 % ثم 50.1%) و(47.34 %) و(41.05 %).
في انتخابات مجلس الشعب/ النواب عام 2012، كانت النسبة العامة 62 % وفي 2015، كانت في المرحلتين بدورتيهما (26.5 % و21.71 %و29.83 % و22.03 %) وفي انتخابات 2020، كانت بالمرحلة الأول دور أول (28.06 % و20.01 %)، وفي المرحلة الثانية بالدور الأول (29.05 %)، ولم تعلن الهيئة الوطنية رسميا نتيجة الدور الثاني. وفي مجلس الشورى/ الشيوخ كانت النسبة العامة لانتخابات 2012 (12.25 %)، وفي عام 2020 بمرحلتيها، كانت (14.23 % و10.22 %).
وفي استفتاءات الدستور، كانت النسبة عام 2011 و2012 و2014 و2019 على الترتيب هي: 41.19 % و32,86 % و38.6 % و44.33 %.
من هنا تصبح نتائج الاقتراع الرئاسي الحالي مفاجأة للجميع، السؤال ما هي أسباب ذلك؟ بعبارة أخرى لماذا أقدم الناخبون بكثافة للإدلاء بأصواتهم؟
عزى مدير الجهاز التنفيذي للهيئة الوطنية للانتخابات أحمد البنداري، هذا الزخم إلى عشرة أمور، يبدو عليها عدة ملاحظات جوهرية.
أولا: إبرام بروتوكولات للتعاون وتفعيلها مع الجهات والوزارات ذات الصلة بالعملية الانتخابية. هنا يجد المطلع على موقع الهيئة الوطنية للانتخاب خبرين. الأول، أن الهيئة اجتمعت مع وزيرة التضامن مرتين أحداهما، في 14إبريل2022، وثانيهما في 11سبتمبر 2023، وكانت المحصلة توقيع بروتوكولين؛ لتمكين ذوي الإعاقة والأسر والكوادر الشبابية من الانتخاب. الخبر الثاني، هو توقيع الهيئة بروتوكول مع هيئة البريد في 22 أغسطس 2023؛ لنقل مواد الانتخاب للمحافظات. وبالطبع الأمر الأول، يرتبط بالاقتراع، ويتحدث عن ذوي الإعاقة، وهم بالطبع نسبة محدودة من الناخبين. أما الأمر الثاني، فلا علاقة مباشرة له بنسبة الاقتراع.
ثانيا: الاهتمام بفئة ذوي الهمم وكبار السن لدعم الاقتراع، وهذا أيضا سبب غير جوهري؛ لزيادة نسب الاقتراع بهذا الشكل الكبير، لأن الهيئة ومن سبقها دائمة الاهتمام بتلك الفئات، من حيث توفير الأماكن وطرائق التصويت لكل هؤلاء.
ثالثا: توفير القضاة المشرفين على اللجان الفرعية، بحيث كان هناك قاض على كل صندوق، وهو ما أعطى ضمانة للمواطنين لحياد القضاة. وهذا السبب، ليس جديدًا على الإطلاق، فهو يجري في كل استحقاق، يتضمن اقتراع بغض النظر عن موضوع الاقتراع.، وقد لاحظنا مع توافره في السابق، أن النسبة كانت عادة متدنية، أو نادرا ما كانت متوسطة.
رابعا: الدفع بالرائدات الريفيات اللاتي يتصلن مباشرة بالأسرة المصرية؛ من أجل توعية الناخبين والناخبات بأهمية الاقتراع في الانتخابات الرئاسية. هذا الإجراء مهم، لكنه يصعب التعويل عليه؛ لتحفيز المواطنين على المشاركة، صحيح أنه متضمن في بروتوكولي الهيئة مع وزارة التضامن، لكن الوزارة تقوم بعشرات الأدوار المشابهة، منذ سنوات طويلة. فمبادرة طريقك أمان، ومودة، ووعي، وحياة كريمة، وتأهيل ذوي الإعاقة، ورعاية كبار السن…إلخ، كلها أمور مهمة، تقوم بها وزارة التضامن، لكن يعتقد، أن تأثيرها في الشأن الانتخابي محدود، بسبب قيام الوزارة بها منذ، 2014 حتى اليوم.
خامسا وسادسا: الاستجابة لعدد كبير من المواطنين الراغبين في تغيير الموطن الانتخابي، وتعدد الطرق المستخدمة؛ لاستعلام الناخبين عن لجانهم الانتخابية. هذان الدوران ليسا جديدا على القائمين على العملية الانتخابية، سواء كانت الهيئة المستقلة، أو من سبقها، وهي لجنة انتخابات الرئاسة أو اللجنة العليا للانتخابات، فهي من الأدوار القديمة والتقليدية؛ بشأن علاقة إدارة الانتخابات بالتحديث الدوري لقاعدة البيانات.
سابعا: التواصل مع صانعي المحتوى “البلوجرز” على مواقع التواصل الاجتماعي للوصول إلى الشباب، واستخدام وسائل مبتكرة في توعية الناخبين. هذا التبرير، لا يعرف مد تأثيره على حشد الناخبين، لكن ما هو جدير بالقول، إن وسائل تعريف الناخبين بمقراتهم الانتخابية، هو أسلوب قديم.
ثامنًا: مشهد المصريين في الخارج أثناء التصويت في الانتخابات الرئاسية، كان حافزا لمن هم في الداخل. هذا الأمر من المؤكد يعتبر حافزا محدودا للغاية للذهاب للتصويت، لأن مقرات الانتخاب في الخارج محدودة العدد، والناخبين في بعض المناطق مثل، بلدان الخليج كثر، لذلك فمن الطبيعي، أن يكون هناك زحام. وتؤكد الشواهد السابقة، أن أعلى عدد وصل إليه المقترعين بالخارج هو 318 ألفا، وكان ذلك في انتخابات الرئاسة 2014 من إجمالي عدد الناخبين بالخارج الذي قدر، وقتئذ بنحو 5 ملايين ناخب.
تاسعًا: التوسع في عدد اللجان الفرعية، خاصة في المناطق ذات الكثافات العالية؛ لاستيعاب أكبر عدد من الناخبين. هذا السبب تدحضه الأرقام أيضًا. ففي انتخابات الرئاسة الحالية، كان عدد اللجان الفرعية 11631 لجنة، بينما كان عددها أكبر من ذلك، دون جدوى في اقتراعات عامة سابقة. فعلى سبيل المثال، كان عددها في استفتاء 2014 الخاص بالدستور 30317 لجنة، وفي انتخابات الرئاسة 2018، كان العدد 13706 لجنة.
عاشراً: تمكين الناخبين المتواجدين داخل الحرم الانتخابي بعد انتهاء موعد التصويت بالإدلاء أصواتهم. وهذا الأمر طبيعي ومتعارف عليه في عمليات الاقتراع المصرية السابقة، وهو ما درجت عليه عمليات الاقتراع في كافة أنحاء العالم. وهو على أي حال، لو افترضنا صحته، وكان جدلا على مستوى كل اللجان، فلن يكون مؤثرًا بهذه الدرجة الكبيرة.
يبقى السؤال: ماذا حدث؟
يرى البعض، أن المصريين تأثروا بالخوف من الظرف الخارجي المتصل بالترانسفير الفلسطيني؛ بسبب الضغوط الصهيونية، وقد راعهم مشهد محاولات اختطاف الصهيوني لسيناء كوطن بديل للفلسطينيين، ورفض الرئيس السيسي القوي، والمعتبر والمقدر من المصريين جميعا لذلك. لكن هذا الأمر يزيد من تصويت المهتمين بالشأن الانتخابي للرئيس السيسي (ذو الخلفية العسكرية) أكثر من ذهاب “حزب الكنبة” إلى صناديق الاقتراع.
أما عادة المصريين الموروثة، والخاصة بـ (اللي نعرفه أفضل من إللي ما نعرفه) فهي أيضا غير مفسرة للكثافة، لأنها كانت ذاتها قائمة في انتخابات 2018. نفس الأمر ينطبق على قول (اجعلوه يكمل برنامجه)، أو قول (لننتخبه مرة أخرى حتى يصلح، ما أفسد في السنوات الماضية)، وكلها أيضا أسباب قديمة، كما أنها ترتبط بتصويت معتادي الخروج للرئيس السيسي نفسه، ولا ترتبط بالضرورة بإخراج حزب الكنبة من متكاتهم.
هنا يبقى من الأهمية في تبرير الخروج بكثافة بحملات الجهات الإدارية، والأحزاب ورجال الأعمال باعتبارها رغم قدمها هي الأخرى، إلا أنها كانت كثيفة جدا هذه المرة، وكان شواهد ذلك ما يلي: –
-تعبئة الموظفين في كافة الوزارات الحكومية للذهاب لصناديق الاقتراع، وتقسيمهم على أيام الاقتراع، ومنح الحوافز لبعض منهم، للخروج كإعطاء بدل الوجبة وبدل انتقال ويوم إجازة نظير الخروج للاقتراع. وكذلك تهديد بعض الوزارات لموظفيها بعقاب كل من لم يذهب للاقتراع، ويدلي بصوته، بغض النظر عمن سيعطى له صوته، وقد وصل الأمر إلى حد تهديد مدير أحد المستشفيات العامة بالمستشفى بخصم 500 ج لكل من يتقاعس عن الذهاب للصناديق، وهذا الأمر بالطبع يختلف عن الغرامة التي يحملها قانون مباشرة الحقوق السياسية، والتي درج العمل على تجميد العمل بها؛ بسبب الظروف الاقتصادية.
– حشد سائقو النقل الجماعي من القطاع الخاص (الميكروباسات تحديدًا) ؛ لنقل الناس إلى مقرات الاقتراع، وقد وصل الأمر لحد نزع لوحات بعض السيارات، وتسليمها للسائقين في مقرات الاقتراع نظير نقل الناس بالمجان، مما يشحعهم على الذهاب لمقرات الاقتراع. هذا الأمر تحديدًا، أدى إلى تكدس الناس في الشوارع بحثًا، دون جدوى عن وسائل نقل، تنقلهم لمنازلهم ولمقار عملهم، دون تأخير وبلا جدوى.
– تجميع الكثير من الوزارات بطاقات الرقم القومي للعاملين بها، لاستلامها في مقرات الاقتراع التابعة لهم عقب الإدلاء بالصوت. هنا يقوم أكثر من مندوب بتسليم البطائق في مقرات الاقتراع بعد الاستدلال عليها؛ بسبب تباين تلك المقرات بين الناخبين. وقد لاحظ البعض، أنهم بعد أن ذهبوا، ووقفوا في طابور طويل، كان الطابور لا يتحرك، ثم أرشدهم البعض، أن التصويت بالداخل، وأن الطابور المعني هو للصور التذكارية.
– قيام بعض الأحزاب السياسية، خاصة الأحزاب ذات العضويات الكبيرة في مجلس النواب؛ بسبب قانون القوائم المطلقة المعيب، بأنشطة غرضها جيد متعلق بالتحفيز، وباطنها هدام مؤدي للفساد، وذلك باستغلال عوز الناس، بتقديم كراتين تموين وأموال، وصلت إلى حد 300 ج للصوت الواحد نظير المشاركة في الاقتراع. وقد قام بعض تلك الأحزاب بممارسة هذا الدور أمام اللجان مباشرة. وقد لاحظ الكثير منا، أن المربيات وخادمات المنازل والجليسات اللائي يقمن بدور مقدر في بيوت الناس، تأخرن كثيرا في هذه الأيام عن المنازل التي يعملون بها؛ بسبب العوز والرغبة في الحصول على مكافأة بدل التصويت!!
– تعقب جهات إدارية لرجال الأعمال، وخاصة التجار للقيام بالتبرع عنوة؛ لتجهيز مقرات الاقتراع باللوجستيات لكافة المعنيين بعملية التصويت، مما يسهل عملية التصويت، ويشجع الجميع على الحضور والاهتمام بسير العملية الانتخابية على مدار الأيام الثلاثة.