التظاهر السلمي أحد وسائل الاحتجاج الشرعية التي تعبر فيها الشعوب عن مطالبهم، وتحشد من خلالها الدعم الشعبي؛ من أجل قضية معينة، كما يمثل قناة، يشارك من خلالها المواطنين في العملية السياسية، ويدخل التظاهر السلمي ضمن عدة حقوق أساسية منها، حرية التجمع السلمي، والحق في حرية التعبير، والحق في المشاركة السياسية.

أهمية التظاهر السلمي، أمر بديهي، لا يحتاج إلى تأكيد، لكن المناخ السياسي المصري يحتم إعادة التأكيد مراراً وتكراراً على الحقوق الأساسية، وخاصة ما يتعلق بحق التظاهر.

شهدنا مؤخرا توجه العديد من الشعوب إلى الشوارع في مختلف مدن وعواصم العالم؛ لإظهار الدعم لغزة، ولم يتخلف الشعب المصري- الذي كان، وما زال في مقدمة الشعوب التي تدعم القضية الفلسطينية- خرج في الميادين؛ للتضامن مع سكان غزة، وإدانة القصف الإسرائيلي، لكن بعض  تلك التظاهرات قابلها رجال الأمن بالفض، والقبض على بعض المتظاهرين.

وقد أصبح فض المظاهرات ممارسة متوقعة في المشهد السياسي المصري، والتظاهر أصبح من المشاهد النادرة في العقد الأخير، بعد أن كان من المشاهد المعتادة– وأحيانا شبه الأسبوعية– عقب يناير 2011.

ندرة المظاهرات، ترجع للقيود الصارمة التي كبلتها بها السلطات، خاصة مع استحداث قانون التظاهر، والآثار السلبية الناتجة عن هذا التقييد على حقوق المواطنين في التعبير عن رأيهم، وحقهم في المشاركة السياسية، وحقهم في التجمع السلمي واضحة.

ولكن تظل هناك علامات استفهام؛ بشأن مدى فعالية سياسات المنع، والتقييد الشديد للتظاهر، والنتائج المترتبة لتلك السياسات على استقرار المجتمع على المدى الطويل.

القمع مفتاح عدم الاستقرار

العلاقة بين القمع من ناحية، والاحتجاج أو المعارضة بشكل عام، والتظاهر بشكل خاص من الناحية الأخرى، شغلت العديد من الباحثين لسنوات عديدة، ليصلوا من خلال دراستها إلى نتائج وفرضيات مختلفة،

تجادل كارين راسلر، في دراستها عن إيران- تحت حكم الشاه- إلى أن قمع التظاهرات يردع التظاهرات على المدى القصير فقط، ولكن على المدى الطويل يؤدي؛ لتوسع نطاق الاحتجاجات الشعبية، وهذا ما أدى لسقوط نظام الشاه في النهاية، أما مارك إيرفينغ ليشباخ، فابتكر فرضية الاستبدال التي تقول، بأن القمع لا يقضي على المعارضة والاحتجاج، بل يردع فقط أسلوب الاحتجاج المستخدم وقتها؛ نظرا لأن المعارضين هدفهم الأساسي هو تحقيق أكبر قدر من المكاسب، بأي أسلوب ممكن، فعلى سبيل المثال، إذا قمعت إحدى الحكومات المظاهرات السلمية؛ فهذا يؤدي إلى أن يستبدلها المعارضون بالتظاهرات العنيفة، والعكس صحيح، إذا قمعت حكومة ما التظاهرات العنيفة، ستلجأ المعارضة للتظاهر السلمي.

أجريت عدة دراسات تجريبية حول تلك الفرضيات، هناك دراسة ويل موور، حول العلاقة بين القمع والاحتجاج في سيريلانكا، والبيرو، وتدعم نتائج تلك الدراسة فرضية ليشباخ. ونتائج دراسة رونالد فرانسيسكو، في حالات ألمانيا الشرقية، وتشيكوسلافكيا، والانتفاضة الفلسطينية، تميل نحو إثبات، بأن القمع الشديد يؤدي إلى رد فعل معاكس، وقوي ضد السلطة، كما أن المتظاهرين يتكيفون مع القمع بتغيير أساليب المعارضة والتظاهر.

وبشكل عام رغم اختلاف النتائج والفرضيات حول المسألة، ورغم أن بعض الباحثين يرون القمع وسيلة فعالة لردع التظاهر، لكن أغلب الدراسات والفرضيات، تؤكد أن القمع– وإن كان فعالا في بعض الحالات– يكون رادعا مؤقتا، ولكن على المدى الطويل؛ يتسبب في نتائج عكسية عنيفة، تهدد استقرار وبقاء النظام السياسي.

في النظم الديمقراطية الوضع مختلف، فهناك مساحة أكبر، تسمح بتنظيم التظاهرات، ولكن سيكون من السذاجة الاعتقاد، بأن حرية التظاهر مطلقة، فالدول الديمقراطية تتحكم بالتظاهرات عن طريق إدارتها، وتنظيمها معتمدة على أدوات أكثر تواريا.

وحتى بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، كانت أغلب الدول الغربية تواجه التظاهرات بالعنف والقمع، ولكنها تدريجيا أصبحت أكثر تقبلا للأمر، واتجهت نحو ما يطلق عليه الباحثون مأسسة التظاهر، حيث تقوم السلطات بالتحكم في مسار التظاهرات، ومنع انزلاقها للعنف من خلال ضم التظاهر إلى المجال المؤسسي، وهذا يشمل عدة وسائل، تسعى؛ لتأطير التظاهرات ضمن حدود وقواعد مثل، تحديد خط السير والتصرفات المسموحة خلال التظاهرات، وتعاون الشرطة مع المتظاهرين لضمان سلاسة العملية.

ورغم أن هذا الأسلوب له آثار سلبية على فعالية التظاهرات، بحيث تفقدها بعض قدرتها على الإخلال بالنظام (الأمر الذي يعطي حدة للتظاهر، ويزيد من تأثيرها)، ولكن في نفس الوقت، تمثل تلك الاستراتيجية مساومة ملائمة، تسمح للمتظاهرين بالتعبير عن مطالبهم، وجذب انتباه الجمهور لقضية ما، بالتزامن مع تقليص احتمالية حدوث أحداث عنف، أو مواجهات في نفس الوقت.

التقييد في السياق المصري

عقب عام 2013، ومع تطبيق قانون التظاهر، أصبح التظاهر من القنوات السياسية شبه المستحيلة، ولقد شمل هذا المنع المظاهرات السياسية، والاحتجاجات الطلابية والاعتصامات العمالية. وعندما حاول البعض تنظيم مظاهرات سلمية في الأعوام السابقة، تم فضها. من أشهر الوقائع التي قد تستحضرها ذاكرة الكثيرين على هذا، هي المسيرة التي نظمها حزب التحالف الشعبي الاشتراكي في ذكرى 25 يناير عام 2015، تلك التظاهرة التي لقيت فيها الشهيدة شيماء الصباغ مصرعها خلال الفض.

لقد ضرب المصريون- منذ يناير 2011، وسلسة التظاهرات والمليونيات التي تلت الثورة في الأعوام اللاحقة- مثالا يحتذى على القدرة في مجال التنظيم والتظاهر السلمي، اقتدت به العديد من الشعوب والحركات الاجتماعية حول العالم.

ولن يكون من المبالغة القول، إن الطابع السلمي غلب على معظم التظاهرات التي نظمها المصريون، منذ يناير 2011، حتى الآن، وكانت هناك بعض الحالات الاستثنائية، والنادرة معظمها بفعل، أو بتحريض أفراد ومجموعات، ينتمون لبعض التنظيمات الإسلامية، خاصة عقب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان.

ولهذا تكمن المشكلة، في أن الحراك الشعبي الذي تم إحباطه، لم يكن عنيفا على الإطلاق، بل على العكس تماما، فقد عبر الحراك الشعبي الذي أنتجته يناير عن ممارسات سلمية مبهرة، تتفوق على شعوب كثيرة لها خبرات طويلة في الاحتجاج السلمي في ظل نظم ديمقراطية عريقة، وبالتالي فإن إغلاق المجال أمام المواطنين؛ للتعبير عن مطالبهم من خلال طريق التظاهر السلمي والشرعي، يزيد من احتماليات لجوء بعض الأفراد إلى مظاهر احتجاج متطرفة وعنيفة كبديل.

تغير نمط التظاهر بالفعل عقب تشديد القبضة الأمنية على التظاهر، ففي سبتمبر 2019 و2020، خرج بعض المواطنين العاديين للشوارع؛ استجابة لدعوات أطلقها المقاول محمد علي، واختلفت تلك الاحتجاجات عن نمط التظاهرات، والمليونيات التي كانت تنظم، منذ يناير 2011، حتى سقوط جماعة الإخوان، والتي امتازت بكونها منظمة بشكل كبير، تتصدرها وتقودها قوى سياسية وأفراد، ينتمون للطبقة الوسطى، بينما خلت احتجاجات سبتمبر من أي تنظيم، و من أي تواجد لقوى أو مجموعات سياسية، عبرت احتجاجات سبتمبر عن نوبات غضب شعبية، بلا أجندة سياسية، وانتمى أغلب المشاركين فيها، الى فئات مهمشة من الريف والمناطق الحضرية الفقيرة.

هنا من المفيد التفريق بين التظاهر، وأعمال الشغب، فالتظاهر السلمي، يمثل وسيلة سياسية وشرعية؛ للتعبير عن الرأي بشكل يمكن احتواؤه، ومعالجة أسبابه، عكس أعمال الشغب.

تجادل سعدية  أكرم، بأن أعمال الشغب يكون لها دوافع سياسية، ولكن تلك الدوافع لا تترجم إلى ممارسات سياسية تقليدية، لأن الفئات شديدة التهميش التي تقوم بتلك الاحتجاجات العنيفة، لا يستطيعون التعبير عن مظالمهم، وربما لا يدركون دوافعهم بشكل كامل أيضا، كما أنهم يفتقرون للقدرة على التأثير، وتغيير محيطهم السياسي والاقتصادي.

هذا لا يفسر فقط، لماذا تهتم الدول الديمقراطية بفتح المجال أمام التظاهر الشرعي، ولكنه يفسر \|أيضا استقرار بعض النظم السلطوية. يلاحظ بيتر لورنتزن، بأن الدول السلطوية تسمح- بشكل غير رسمي– بوجود تظاهرات محدودة ذات طابع فئوي (خاصة الاقتصادية والاجتماعية)، ويجادل أن هذا يمثل وسيلة، تستخدمها النظم السلطوية لجمع المعلومات حول المشاكل المجتمعية؛ لحلها واحتوائها، قبل أن يتحول ذلك السخط المحدود إلى تمرد شعبي واسع النطاق، ويستنتج لورنتزن، بأن نظم سلطوية مثل، الحزب الشيوعي في الصين، ومبارك في مصر، وسوهارتو في إندونيسيا، نجحوا في الحفاظ على السلطة لفترة طويلة؛ لاتباعهم هذا المنهج.

رغم أن احتجاجات سبتمبر، لم تتحول لأعمال شغب، ولكن تلك الاحتجاجات مثلت إنذارا لخطر محتمل، هناك مجموعات مهمشة اقتصاديا واجتماعيا في جميع أرجاء مصر، في الحضر والريف من عمال وفلاحين وعاطلين وغيرهم، وليس متوقعاً، أن تستطيع أي حكومة حل مشاكلهم بشكل سحري، ولكن عندما يجتمع هذا السياق الاجتماعي مع خنق حرية التظاهر، والتضييق على المجال العام، فهو بمثابة وصفة لكارثة.

عندما تجد الفئات شديدة التهميش جميع الوسائل الشرعية للتعبير عن الرأي مغلقة- بداية من منع التظاهر السلمي، مما يفاقم صعوبة التعبير عن المظالم، ووصولا إلى عدم وجود قنوات سياسية أو نقابية شرعية، وحرة تعبر عن مطالبهم– سيكون هناك دائما احتمالية حدوث نوبات سخط عنيفة.

مظاهرات مرضي عنها

شهدنا في العقد الأخير ظاهرة المظاهرات المدعومة رسميا، أو شبه رسميا، أبرزها كانت مظاهرات التفويض التي دعت لها السلطة السياسية عام 2013، عقب الإطاحة بجماعة الإخوان، ثم ظهرت عام 2020، دعوات من وسائل إعلام وقوى سياسية مؤيدة للنظام السياسي، تدعو الشعب للنزول؛ لتجديد الثقة في الرئيس في ذكرى نصر أكتوبر، وقبلها في 2019، أيضا دعي المواطنون؛ للنزول إلى الشوارع؛ لتأييد الدولة.

صورت وسائل الإعلام تلك التظاهرات بعدة توصيفات مثل، احتفالات لدعم الدولة، ومظاهرات في حب مصر، ومظاهرات التأييد المطالبة بالاستقرار، وكانت منطقة المنصة بمدينة نصر الموقع الأساسي لتلك التظاهرات. تكررت الدعوة لمظاهرات تفويض أخرى مؤخرا، عندما قامت بعض الوسائل الإعلامية والقوى السياسية المؤيدة للنظام السياسي بدعوة الشعب؛ للخروج في مظاهرات؛ لتفويض الحكومة؛ للتعامل مع الأزمة في غزة، ودعم موقف مصر الرافض؛ للضغوط الدولية حول تهجير الفلسطينيين.

من الواضح، بأن تلك الدعوات تهدف؛ لإظهار الدعم الشعبي للنظام السياسي، ولكن قد تكون تلك الدعوات الرسمية، وشبه الرسمية، تحمل بوادر استراتيجية لمأسسة التظاهر، ولكن بشكل غير ديمقراطي، الدعوة لتظاهرات مؤيدة للنظام السياسي، ترسم حدودا جديدة، ما بين مظاهرات مقبولة وأخرى مرفوضة.

المظاهرات المرضي عنها، تكون مطالبها متوافقة مع رؤية وأهداف النظام السياسي، بينما كل ما يخرج عن هذا الإطار يقع ضمن المظاهرات المحظورة. واختيرت منطقة المنصة؛ لتكون رمزا للتظاهرات التي تتوافق قيمها، وممارساتها مع النظام القائم، واستبعاد ميدان التحرير؛ نظرا لارتباطه الرمزي بثورة 25 يناير. وقد يكون الهدف الأوسع لتلك الاستراتيجية، هو إضفاء الطابع المؤسسي على التظاهرات خلال ضبط أساليب الاحتجاج، والتحكم بتصرفات ومطالب المتظاهرين؛ لكيلا يخرج التظاهر عن مسار محدد، ترسمه السلطة؛ ليصبح التجمع السياسي أداة استراتيجية؛ للحفاظ على الاستقرار، وليس قناة سياسية؛ للاستماع للمطالب الشعبية.

هذا كان واضحا في تظاهرات التفويض الأخيرة، عندما انشقت مظاهرة في التحرير، وهتف فيها المتظاهرون “المظاهرة دي بجد مش تفويض لحد”؛ لتفريق أنفسهم عن مظاهرات التفويض، حينها ردت قوات الأمن بفض التظاهرة، والقبض على بعض أفرادها، رغم أن التظاهرة كانت سلمية، واكتفى المتظاهرون بالهتاف، وحمل اللافتات المؤيدة لغزة.

يمكن ملاحظة استراتيجية مشابهة، يتبعها أحيانا البوليس البريطاني في تنظيم المظاهرات في المملكة المتحدة، وإن كانت أقل حدة؛ نظرا للبيئة الديمقراطية هناك، حيث تشير دراسات عن إدارة التظاهر في المملكة المتحدة، إلى ميل البوليس نحو تسهيل المظاهرات التي تصنفها قوات الأمن، بأنها مقبولة، ولا تشكل خطرا، بينما تقيد، أو تستخدم العنف في المظاهرات التي تصنفها كغير مقبولة، وهذا يعتمد على مطالب المظاهرة، أو منظميها أو أدواتها.

التحكم بالتظاهرات بهذا الشكل، يتعارض مع حرية التظاهر، والتعبير عن الرأي، كما أنه لا يضفي الطابع المؤسسي للمظاهرات بشكل جاد، خاصة عندما تكون التظاهرات المسموحة محصورة فقط في سياق دعم النظام القائم.

حرية التظاهر شرط لمجتمع مستقر

مثلت 25 يناير، والتظاهرات اللاحقة فرصة؛ لتوطيد ثقافة التظاهر السلمي في المجتمع وتنظيم التجمعات بشكل مؤسسي، ما يضمن حرية التظاهر بالتوازي مع احتواء خطر انزلاق الاحتجاجات نحو العنف أو المواجهات، ولكن بدلا من هذا، تم إغلاق تلك القناة السياسية الشرعية بشكل كامل، وأصبحت التظاهرات المسموحة محصورة في إطار تأييد السلطة فقط.

ربما يكون منع التظاهرات بشكل شبه كامل، نتج عنه شكل من أشكال الاستقرار، ولكنه استقرار مؤقت عواقبه طويلة المدى، لم تظهر بشكل كامل بعد، وقد أظهرت السنوات الأخيرة، أن نوبات الغضب الشعبية ليست ظاهرة بعيدة عن المجتمع، وقد تحدث بشكل مفاجئ في أي وقت. التضييق على حرية التظاهر والمجال العام، لا يؤثر سلبا فقط على حقوق المواطنين، ولكنه قد ينتهي أيضا بعواقب سلبية على استقرار، وديمومة الوضع القائم.