الشائع هو أن الحق دائماً ينتصر، ولو بعد حين، لكن الواقع هو أن القوة هي التي تنتصر، ما دام توفرت لها عناصر الغلبة، القول بانتصار الحق هو نوع من عزاء الضعفاء؛ لأنفسهم ومواساة المغلوبين لبعضهم، لكن للحق قوة أدبية وأخلاقية، إذا وجدت بين أهل الحق من يعيها ويدركها، فإنها تستنهض الهمم من السقوط، وتخلق الدوافع الكافية؛ لتحمل مشقات بناء، ومراكمة القوة اللازمة بكل عناصرها.

أدرك هذه الحقيقة سعد زغلول، إبان ثورة المصريين في عام 1919م، أدرك أن حق المصريين في الحرية والاستقلال يتصادم مع قوتين، اعتادت كل منهما، أن تدوس حق الشعب، قوة الحكم الذي اعتاد الاستبداد والديكتاتورية، وقوة الاحتلال الذي يستهين بالخاضعين له من شعوب المستعمرات، لهذا أطلق صيحته المشهورة “الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة” ، ثم لم يكتف بذلك، ولم يتوقف عند ذلك، وإنما حشد طاقات الأمة، وخاض بها حرباً معلنةً، ضد القوتين معاً، قوة الطغيان المحلي، وقوة الاستعمار الأجنبي.

وانتبه مكيافيللي، في كتابه الأمير إلى حقيقة تاريخية مفادها، أن كل الأنبياء العزل، الأنبياء غير المقاتلين، انهزموا، رغم أنهم كانوا على الحق المبين، وكان أعداؤهم على الباطل المبين، بينما انتصر الأنبياء غير العزل، الأنبياء الذين تسلحوا بالقوة المادية، مثلما أخلصوا للحق المبين، وكانت وجهة نظر مكيافيللي، أن طبائع البشر متقلبة، بحيث تستطيع استمالتهم في لحظة ما إلى جانب الإيمان، لكنك لا تضمن بقاءهم معك إلى الأبد، تستطيع بالاستمالة، أن تكسبهم في صف الإيمان، لكن لا تستطيع إبقاءهم عليه، دون القوة المادية.

في عام النكبة الأولى 1948م، كتب الشاعر المهندس علي محمود طه قصيدته ذائعة الصيت ” أخي جاوز الظالمون المدى “، ثم لحنها، وغناها الموسيقار محمد عبد الوهاب، ثم لما قامت ثورة 23 يوليو 1952م، ولما رأت الثورة، أن تكون القاهرة عاصمة العرب، يلتف حولها المناضلون ضد الاستعمار، أنشأت لهذا الغرض إذاعة صوت العرب؛ لتكون صوت المناضلين العرب، ضد الاستعمار، بدأت في 4 يوليو 1953م، بدأت مجرد برنامج من 28 دقيقة، ثم تحولت إلى أقوى منصة دعائية عربية في عقدي الخمسينيات والستينيات، وصلت ذروتها مع حرب 1967م، حيث كانت إذاعة صوت العرب تتطوع، وتذيع بشائر النصر ثم تبين، أنها تكذب، وأن الهزيمة ماحقة.

من النكبة الأولى 1948م إلى اتفاق كامب ديفيد 1978م، ثلاثون عاماً كاملة، جرب فيها العرب الشيء، ونقيضه، من الحروب بالجيوش النظامية في 1948م، ثم 1956م، ثم 1967م، ثم 1973م،  كما جربت المقاومة الفلسطينية أساليب العمل الفدائي، كان المنهج الرائد حتى ذلك الوقت، هو ما ورد في قصيدة علي محمود طه، ولحنه وغناه محمد عبدالوهاب ” أخي جاوز الظالمون المدى، فحق الجهاد وحق الفدا، أنتركهم يغصبون العروبة، مجد الأبوة والسؤددا، وليسوا بغير صليل السيوف، يجيبون صوتاً لنا، أو صدى، فجرد حسامك من غمده، فليس له بعد أن يُغمدا “.

في الثلاثين عاماً 1948 – 1978م، كانت فكرة أن إسرائيل هي العدو الأول لكل العرب قائمة، وكانت فكرة العروبة قائمة، ولو نظرياً، ولم يقلل منها انقسام العرب إلى ثوريين، ورجعيين، ولم يقلل منها، أن الدولتين العربيتين الأكبر وهما: مصر والسعودية كانتا في حرب فعلية، ضد بعضهما في اليمن لمدة خمس سنوات. ورغم ذلك، ففي هذه الثلاثين عاماً، تأسست إسرائيل، ثم تمكنت مع كل حرب مع العرب، في 1948م، انتزعت وجودها، ثم في 1956م انتزعت حرية الملاحة في مضايق تيران، ثم في 1967م أكدت وجودها، ثم بعد حرب 1973م أكدت، أنها خُلقت للبقاء، ومن الأولى الاعتراف بها وعقد السلام معها، والتعايش معها كحقيقة شرق أوسطية مستقرة.

وكان عام 1979م حاسماً لثلاثة أسباب:

1- اتفاق السلام مع مصر الذي أخرج أكبر الدول العربية من شعار “فجرد حسامك من غمده، فليس له بعد أن يُغمدا “، فقد أُغمد الحسام الأقوى بالفعل، غضب العرب حيناً من الزمن، ثم اتجهوا للطريق ذاته، قليلون في العلن، كثيرون في السر، حتى بات خيار الحسام المغمود خيار كل العرب.

2 – حادث الحرم المكي الذي دشن أولوية الإرهاب داخل البلدان العربية والإسلامية.

3 – الثورة الإسلامية في إيران التي نقلت الخطر على العرب من إسرائيل إلى إيران، العدو بات في شرق الخليج، وليس بين النهر والبحر في فلسطين التاريخية، خاض العرب أكبر وأطول حروبهم المعاصرة، ليس مع إسرائيل، لكن مع إيران. هذه الحرب وحدت العرب طوال عقد الثمانينيات، لكنها ما إن وضعت أوزارها، حتى بدأت تمزق صفوفهم، حتى يومنا هذا، خرج العراق من الحرب بشعور المغبون من شركائه في دول الخليج، فالعراق حارب لأجلهم، وتم استنزافه، وهم ازدهروا، ولم يدفعوا نصيباً عادلاً في تكاليف الحرب، لذلك جاء غزو العراق للكويت في الثاني من أغسطس 1990م.

من غزو العراق للكويت حتى يومنا هذا: تمزقت أطلال العروبة بالتدريج، ذهب الكثير من العرب تحت الحماية الغربية علناً، انفتحت الطرق المؤدية إلى السلام السري والعلني مع إسرائيل.

كانت خلاصة كل ما سبق باختصار شديد: نزلت القضية الفلسطينية درجات كثيرة جداً أسفل سلم الأولويات في كل بلد عربي، وهذا ما أدركه في وقت مبكر ياسر عرفات، ولهذا لم يتردد، في أن يدخل في زمام السلام مع الداخلين، وعقد مع إسرائيل اتفاقات أوسلو 1993م.

الرئيس أنور السادات كان صاحب السبق- في هذا المضمار- ثلاث مرات: المرة الأولى يوم طرد الخبراء الروس من مصر عام 1971م، ولم ينتظر حتى يتفكك، ويسقط الاتحاد السوفيتي بعد ذلك بعشرين عاماً فقط في عام 1991م، ثم المرة الثانية، يوم عقد نية السلام مع إسرائيل وزار القدس 1977م، المرة الثالثة، لما تنبأ، بأن أمريكا هي إمبراطورية المستقبل، وهي من سيحكم ويتحكم في مقادير الشرق الأوسط، وقد بادر وألقى مقاديره بين يديها.

بقدر ما كان عبد الناصر مُلهماً للشعوب، جاء السادات ملهماً للحكومات كافةً، بما في ذلك السلطة الوطنية الفلسطينية، وقد كشفت حرب الإبادة الصهيونية، ضد المقاومة الفلسطينية من أكتوبر إلى ديسمبر 2023م، هذه الحقيقة، كافة الحكومات العربية والإسلامية لها سقف، لا تتجاوزه في وجه إسرائيل وأمريكا، كلمة إسرائيل، كلمة أمريكا، لا تجد أي منهما معارضة جادة من أي حكومة عربية أو إسلامية.

إسرائيل طليقة اليد في مواجهة المقاومة الفلسطينية، مزودة بالسلاح الأمريكي، والإسناد الدبلوماسي، والإعلامي الأمريكي والأوروبي، بينما المقاومة لا تملك صديقاً، ولا حليفاً إلا تعاطف الشعوب، مجرد التعاطف الإنساني.

هذا التعاطف الإنساني، يمثل مدداً معنوياً وأخلاقياً عظيماً، يعضد منطق الحق، لكنه أعجز من يقف أمام أحكام القوة، فالمقاومة لا تحارب إسرائيل فقط، لكن تحارب معها أمريكا وأوروبا.

السؤال الآن: إلى أي مدى يمكن لمنطق الحق، أن ينتصر على حكم القوة؟

هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.