تكاد تنشأ جبهة صدام جديدة فوق البحر الأحمر بتداعيات الحرب على غزة.
لم يكن متوقعا، أن تنخرط جماعة “أنصار الله” الحوثية اليمنية في صراع الإرادات على مستقبل القضية الفلسطينية بفرض حصار بحري على حركة التجارة من وإلى المواني الإسرائيلية.
كان ذلك إنذارا بتوسيع نطاق الحرب على غزة إلى حيث الضرب على الأوتار الاقتصادية الحساسة.
شرعت الولايات المتحدة بإنشاء قوة بحرية متعددة الجنسيات؛ بذريعة حماية التجارة العالمية في البحر الأحمر، وحفظ الأمن الإقليمي من الهجمات المتزايدة للحوثيين.
كان ذلك التسويغ تلاعبا بالمعاني والألفاظ، فهدف التحالف البحري المزمع حماية إسرائيل ولا شيء آخر.
في كافة المؤتمرات الصحفية التي عقدتها عمدت الإدارة الأمريكية، ألا تأتي على ذكر إسرائيل، أو الإشارة إلى ما يصرح به الحوثيون، من أن الدولة العبرية وحدها هي المستهدفة من الهجمات، التي تقوم بها في البحر الأحمر تضامنا مع غزة.
إسرائيل عبء على فكرة بناء التحالف البحري، خاصة إذا ما اضطر إلى القيام بعمليات عسكرية.
هذه حقيقة لا يمكن إنكارها.
القوة المقترحة تضم دولا أوروبية، كفرنسا وبريطانيا وهولندا والنرويج وإسبانيا، لكنها تخلو من أية دولة عربية باستثناء البحرين!
الغياب العربي شبه الكامل تعبير عن خشية واسعة من أية اتهامات تواطؤ مع إسرائيل على الدم الفلسطيني.
لهذا السبب بالذات، لجأ “البنتاجون” إلى استحداث تحالف جديد غير القوة (153)، التي أنشئت سابقا بذريعة مكافحة عمليات التهريب، والتصدي للأنشطة غير المشروعة في مناطق البحر الأحمر، وباب المندب وخليج عدن.. وتضم دولا عربية عديدة.
إنها نفس المهام المفترض أن تتولاها القوة الجديدة، التي أطلق عليها “حامي الازدهار”.
لم يكن ممكنا، أن تتقبل كل دول القوة (153) حماية المصالح الإسرائيلية، دون أن توقف آلة الحرب والإبادة في غزة.
بالنظر إلى أن البحرين مقر القوة (153)، وتتمركز فيها قيادة الأسطول الخامس الأمريكي، لم تكن أمامها فسحة مناورة، كالتي توافرت لدول أخرى!
ليست لمصر مصلحة من أي نوع، ولا بأي درجة في الانضمام للقوة البحرية الجديدة، رغم أنها قادت قبل فترة وجيزة القوة (153).
الظروف والأجواء والحسابات هذه المرة، تختلف بفداحة.
المرة الأولى، كان الكلام افتراضيا عن أخطار محتملة على حركة التجارة العالمية.
هذه المرة، الكلام المدعى غير الموضوع الحقيقي.
حماية المصالح الإسرائيلية ولا شيء آخر.
بأثر الحرب على غزة، يبدو الاقتصاد الإسرائيلي منهكا، كما لم يحدث من قبل، وقدرته على تحمل الحصار البحري عليه من عند مضيق باب المندب مشكوك فيه.
إلى أي مدى، تتأثر قناة السويس بقلق شركات الشحن الكبرى من المرور في البحر الأبيض قبل أن تصل إليها؟
السؤال يطرح نفسه، والحقائق تتحدث وحدها.
حسب خبراء ومختصون في النقل البحري، فإنه لن تكون هناك أضرار تؤثر على دخل قناة السويس، الذي يوفر لمصر عملة صعبة تحتاجها، باستثناء بعض التأخير في تحصيلها.
وفق رئيس هيئة قناة السويس الفريق “أسامة ربيع”: “لا تأثير على القناة من جراء التوترات في البحر الأحمر”.
بلغة المصالح الاقتصادية، فإن أية أضرار محتملة يمكن تداركها بصورة أو أخرى، خاصة أن الحوثيين يعلنون، أنهم لا يستهدفون التجارة العالمية، بل إسرائيل وحدهان حتى تتوقف عن عدوانها على غزة.
وبلغة الأمن القومي، فإن حصار إسرائيل يساعد على تعبئة دولية واسعة؛ لوقف الحرب على غزة، ومنع تصفية القضية الفلسطينية، أو أي مساس بالسيادة المصرية على سيناء بالتهجير القسري.
قناة السويس وباب المندب قضية استراتيجية واحدة.
هذا ما يجب، أن نلتفت إليه ونتوقف عنده بالاستيعاب.
لقد ساعد التدخل المصري في اليمن؛ لنصرة ثورتها على تحرير جنوبه من الاحتلال البريطاني، والسيطرة على مضيق باب المندب، حتى بات البحر الأحمر عربيا بالكامل.
هكذا كان ممكنا إغلاق باب المندب في وجه الملاحة الإسرائيلية في حربي (1967) و(1973).
الحساب الاقتصادي ضرورين والحساب الاستراتيجي حاسم.
لأسباب أخرى مانعت السعودية في الانضمام لذلك الحلف؛ خشية التورط في مواجهات عسكرية مكلفة اقتصاديا، وأمنيا مع الحوثيين عند خاصرتها الجنوبية، وتعطيل مشروع المصالحة مع إيران، الذي أخذ زخمه من الاتفاق السياسي بينهما برعاية صينية.
في اللحظة الراهنة، يتبدى في الأفق السياسي السعودي مشروعان متعارضان.
الأول، مشروع التطبيع الكامل مع طهران وهو أولوية، تسمح بتوفير بيئة إقليمية أفضل؛ للمضي قدما في مشروع الإصلاحات، وتطوير القدرات الاقتصادية، ولعب دور أكبر في معادلات الإقليم.
الثاني، مشروع التطبيع مع إسرائيل وهو ما يزال ماثلا، حسب تأكيدات متواترة من البيت الأبيض، رغم الحرب على غزة، ومشاهدها المروعة.
بين المشروعين المتعارضين، حاولت السعودية، أن تنأى بنفسها عن التحالف البحري الجديد في البحر الأحمر، أو أن تكون طرفا في جهود تخفيف الوطأة الاقتصادية عن إسرائيل.
حذت الإمارات نفس التوجه.
كان ذلك داعيا للتساؤل عن خلفيات الموقفين اللافتين في مؤتمر صحفي لـ “جون كيربي” منسق الاتصالات في مجلس الأمن القومي الأمريكي.
أحجم عن أي تفسير، أو إيضاح لما جرى في الغرف المغلقة.
كل ما قاله: “إنهما دولتان تمتلكان السيادة الكاملة على قراريهما”.
عندما سئل عن إسرائيل، تهرب من أي إجابة!، كأنه لا علاقة بالحرب على غزة بالمشروع الأمريكي الجديد.
باستثناء إيران، لا يوجد لاعب إقليمي آخر حاضر بكل أوراقه في معادلات الصراع على المستقبل، مستقبل القضية الفلسطينية ومستقبل الإقليم كله.
تدعم وتسلح تنظيمات المقاومة الفلسطينية “حماس” و”الجهاد”.
قيل إنها لم تحط علما قبل عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، لكنها حاضرة ومؤثرة وداعمة للمقاومة.
تحالف “حزب الله” في لبنان بصورة أكبر، لكنها تترك له مساحة حركة واسعة نسبيا في إدارة حساباته ومعاركه، حتى لا تتقوض أدواره وأوزانه.
في حرب غزة، حاول “حزب الله” توسيع قواعد الاشتباك مع الشمال الإسرائيلي إلى أقصى حد، يستطيعه، ويحتمل الإيرانيون تبعاته؛ لتخفيف العبء عن المقاومة الفلسطينية.
الحوثيون قضية أخرى، لم ينظر إليهم بأي وقت، أنهم يمثلون بديلا حديثا للأوضاع المأساوية في اليمن، لكنهم بالمواقف التي اتخذوها في أزمة البحر الأحمر، اكتسبوا شعبية، لم تتوفر لهم من قبل، كأنهم اخترعوا أنفسهم من جديد.
لهذا تبعات وحسابات في المعادلات اليمنية المتغيرة.
ترشح معلومات عن توجه؛ لعقد اتفاق مصالحة بأقرب وقت بين طرفي الصراع اليمني برعاية سعودية وإيرانية.
وقد كان لافتا سرعة ردة الفعل الإيرانية على المشروع الأمريكي بإنشاء قوة بحرية في البحر الأحمر، حيث أعلن قائد بحرية الحرس الثوري تعزيز وحدة البحارة المتطوعين؛ لتسيير دوريات مسلحة في البحر نفسه.
الأمريكيون والإيرانيون، لا يسعون إلى توسيع الاشتباكات في الإقليم، لكن الحوادث يمكن أن تنزلق إلى حرب إقليمية واسعة.