انتهت انتخابات الرئاسة بالنتيجة المتوقعة، وفاز الرئيس السيسي بولاية ثالثة جديدة، وحصل على ما يقرب من ٩٠ ٪ من الأصوات، وظل ملف الإصلاح السياسي والاقتصادي معلق، دون أي جديد يذكر.

والحقيقة أن أهم التساؤلات التي طرحتها انتخابات الرئاسة، تتمثل في دور الدولة في العملية السياسية والانتخابية، وبات من الضروري البدء في عملية إصلاح سياسي، تقوم على الفصل الكامل بين مؤسسات الدولة والسلطة التنفيذية، مهما كان توجهها، أو خلفيتها أو لونها السياسي.

والمؤكد أن مصر، منذ تأسيس نظامها الجمهوري، منذ أكثر من ٧٠ عاما، وهي تعرف “مرشح الدولة” المضمون فوزه في أي عملية انتخابية، سواء كانت عن طريق الاستفتاء، أو انتخابات تعددية. ولذا لم يستغرب المصريون فوز الرئيس الراحل حسني مبارك في أول انتخابات رئاسية تعددية، تشهدها البلاد عام ٢٠٠٥؛ لأنه المرشح القادم من الدولة، رغم إنه انتمى في ذلك الوقت للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، إلا أن فوزه ظل راجعا أساسا؛ لكونه “رجل الدولة”، وليس رجل الحزب الوطني.

وتكرر الأمر، وإن كان بصورة مختلفة مع الرئيس السيسي الذي فاز في ثلاثة انتخابات رئاسية تعددية، باعتباره مرشح الدولة، فهو لم ينتم لحزب سياسي، بل لم يلتق حتى، ولو لمرة بقادة ونواب أحزاب الموالاة الذين أيدوه، وطافوا المحافظات لدعمه، وظل فوزه محسوما باعتباره مرشح الدولة.

يقينا، يتكلم الكثيرون، ولو همسا عن دور الدولة، ومؤسساتها في الانتخابات الأخيرة، واعتبروا أن حياد مؤسساتها كان غائبا في هذه الانتخابات، مما عزز التأكيد على القول، إن أحد شروط وأولويات الإصلاح السياسي في مصر ستظل في ضمان حياد مؤسسات الدولة، وإجراء هذا الفصل بين مؤسساتها والسلطة التنفيذية الحاكمة.

والمؤكد، أن تدخل الدولة في المجال العام بشقيه السياسي والاقتصادي؛ أدى إلى ما يشبه الغياب لهذا الوسيط السياسي المدني الذي عرفته البلاد بصور مختلفة طوال عهودها الجمهورية السابقة، وتم تفريغ المجال العام من أي نشاط سياسي، وانسحب المجتمع، وتقوقع حول همومه اليومية في محاولة؛ لمواجهه أزماته الاقتصادية المتلاحقة.

يقينا، الدور الذي لعبه هذا الوسيط السياسي المدني طوال عهودنا الجمهورية السابقة، سواء أخذ اسم الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الوطني تراجع بصورة كبيرة، حتى الغياب في السنوات الأخيرة، وتعرضت الأحزاب لعملية إضعاف؛ بسبب حصار نشاطها داخل مقراتها؛ حتى أصبحت في أضعف حالتها، مقارنة بما كان عليه الحال في عهودنا السابقة.

وقد أدى انتقال دور الدولة من المنظم للمجال العام بشقيه السياسي، والاقتصادي إلى دور المسيطر، أدى هذا إلى فقدان الأحزاب، والقوى السياسية القدرة على بناء قاعدة اجتماعية لها في الواقع المعاش، فانقطعت الصلة بين الأحزاب ورجال الأعمال والعمال والموظفين (كل حسب توجهاته)، وباتت الهموم الفئوية لمختلف الشرائح الاجتماعية في جانب، وأحاديث السياسة والأحزاب في جانب آخر.

تحتاج البلاد لوسيط سياسي مدني منفصل عن أجهزة الدولة؛ لكي يحصل على مصداقية الشارع والناس، وبات مطلوب الاستماع لمشاكلهم، دون “تزويق” أو شعارات، خاصة في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وتراجع في معدلات الاستثمار المحلي، والأجنبي، ولدور القطاع الخاص.

الدولة المسيطرة على المجال العام غير الدولة المنظمة للمجال العام، والدولة الضامنة لحقوق الجميع السياسية والاقتصادية غير الدولة التي تدخل كطرف في النشاط السياسي والاقتصادي.

حياد مؤسسات الدولة، يعني أنه لا توجد حصانة أو حماية لشركات أو هيئات بعينها؛ لأنها تابعة للدولة، إنما يجب أن يخضع الجميع لنفس المعايير ونفس جهات الرقابة، وأن تصبح الشركات التابعة للدولة، إما شركات خاصة، بدون ميزات تفضيلية، وإما عامة، ينطبق عليها نفس معايير الرقابة، والشفافية التي تنطبق على باقي شركات القطاع العام.

لقد بات مطلوبا أيضا إعطاء مساحات، وأدوار أكبر للنقابات المهنية والعمالية، والاستماع لمشاكل أهل الحرف، والصناعات والمهنيين، وهؤلاء جميعا، كان يفترض، أن يجدوا أحزابا ونقابات قوية تمثلهم، وتدافع عن مصالحهم، ولم يجدوا، فاكتفوا بمناشدة الدولة ومؤسساتها؛ لكي تساعدهم في حل مشاكلهم، وبصورة في بعض الأحيان فاقت قدرات الدولة.

وهناك المهنيون الذين باتوا يعانون من مشكلات كبيرة، أثرت على قيامهم بوظائفهم وأعمالهم، وخاصة الأطباء والمحامين والصحفيين ،وهي مشكلات، لن تحل، إلا إذا أعطيت فعلا مساحات آمنه لحركة النقابات.

وهناك مشاكل الأحياء التي نالها “تطوير”، دون مشاركة أهلها، وهي المساحة الآمنة في كل النظم السياسية ديمقراطية أم غير ديمقراطية، حيث يكون سكان الأحياء طرف أصيل في عمليات التطوير التي تمسهم، وهو ما لم يحدث على مدار سنوات.

إن مشهد الانتخابات الرئاسية المصرية بنتائجها، وتفاصيلها “المسكوت عنها” يقول، إن مؤسسات الدولة لا يجب أن تكون حزبا أو طرفا سياسيا، يدعم السلطة التنفيذية، إنما هي مؤسسات محايدة، وبهذا الحياد، تصبح ضامنة لعملية الانتقال الديمقراطي وبناء دولة القانون.

بداية الإصلاح السياسي في مصر، لن تكون إلا بحياد مؤسسات الدولة، وهو أمر ليس سهلا بعد الدور الكبير الذي باتت تلعبه في المجالين السياسي والاقتصادي، وإن قيامها بدور المنظم والضامن، هما شرطان بديهيان؛ لنجاح الإصلاح السياسي، وبداية الطريق للخروج من أزماتنا الاقتصادية.