تابعت آخر تعديلين تشريعيين صدرا من مجلس النواب المصري، وكان أولهما خاص بتعديل قانون الطفل المصري، وكذلك التعديل الأخير لقانون العقوبات الصادر بموجب القانون رقم 185 لسنة 2023 ، ودون الخوض في تفاصيل هذين التشريعين، إلا أن الملاحظ بشكل سريع هو التشدد في العقوبات الواردة بهما، وأعتقد أن ذلك هو حال التشريعات العقابية المصرية بشكل مستمر، إذ أنها تتخذ من منهج تغليظ العقوبة هدفاً أساسياً في كافة تشريعاتها، وعلى الرغم من كون رئيسا المجلسين النياييين في مصر ( مجلس النواب- مجلس الشيوخ ) من القامات القانونية والقضائية المصرية، وعلى الرغم من وجود العديد من الأعضاء داخل الهيئتين التشريعيتين من ذوي الخلفيات القانونية، إلا أن أمر التشريعات العقابية لم تزل تخطو على نهج تشريعي وسياسة جنائية قديمة وفلسفات تشريعية باتت محل نظر في معظم النظم القانونية على مستوى العالم.
وإذا كانت العقوبة هي أول صورة للجزاء الجنائي المتمثل في رد الفعل الاجتماعي ضد الجريمة والمجرم، حيث ارتبط ظهورها بظهور الإنسان على وجه الأرض وقبل ظهور فكرة الدولة، وما زالت حتى اليوم تمثل الصورة الرئيسية للجزاء الجنائي، فالعقوبة تقوم على أساس مواجهة خطأ الجاني، وتهدف إلى إصلاحه عن طريق الإيلام الذي تحدثه في نفسه، إلا أنها لم تعد الصورة الوحيدة للجزاء الجنائي نظرًا إلى عدم كفايتها أو عدم تحقيق الغرض منها بالنسبة إلى بعض طوائف خاصة من الجُناة (المجرم المعتاد على الإجرام، والمجرم المجنون، والمجرم الحدث) ومن هنا ظهرت فكرة التدابير الاحترازية أو “الوقائية” لتواجه الخطورة الإجرامية لهذه الطوائف الخاصة من المجرمين بصورة تبعد خطورتهم عن المجتمع، وتعمل على إصلاحهم وتأهيلهم.
كما أنه وإزاء فشل المؤسسات العقابية في تحقيق أغراض العقوبة وتنفيذ “برامج الإصلاح والتأهيل” في معظم الأحيانـ وبخاصة العقوبة قصيرة المدة، فقد اتجهت السياسة الجنائية المعاصرة إلى إعادة النظر في الوسائل التقليدية لآليات العدالة الجنائية وفي القواعد المنظِّمة للتجريم والعقاب باعتبارها الأدوات الهامة للسياسة الجنائية، وفي هذا الوقت برزت عدة أفكار وكتابات حول إيجاد بدائل لتلك العقوبات السالبة للحرية لعلها تكون أكثر جدوى في مكافحة الجريمة والمجرم.
وتحتل العقوبات السالبة للحرية مكانًا بارزًا في قائمة العقوبات الجنائية باعتبارها العقوبة الأساسية لكثير من الجرائم، وهي دائمًا عقوبات أصلية وتتنوع هذه العقوبات تبعًا لجسامة الجريمة المرتكبة، وتبعًا لضرورات التأهيل، التي تتفق مع ظروف الجاني، ولا يتم سلب حرية المحكوم عليه إلا بإيداعه أماكن معينة “السجون أو المؤسسات العقابية” لتنفيذها، وتخضع العقوبات السالبة للحرية لقواعد خاصة في التنفيذ، كبداية المدة أو انتهائها وحساب مدة الحبس الاحتياطي وما يطرأ عليه من إفراج شرطي”.
و منذ مؤتمر الأمم المتحدة السادس والذي خصصته للوقاية من الجريمة ومعاملة المجرمين، في كراكاس بفنزويلا عام 1980م كان من أبرز موضوعاته بدائل السجن وقد انتهى إلى أن البدائل يمكن أن تكون في حالات عديدة أكثر فعالية من السجن ، ودون تعريض السلامة العامة للأخطار ، بل ويمكن تطوير هذه البدائل، وقد مضى ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن على التوصيات التي صدرت عن هذا المؤتمر ، وكافة الدول على اختلاف مذاهبها، تصدر من الدراسات الحديثة والأنظمة التي توصي بإدخال مجموعة من الجزاءات والإجراءات لتحل محل سلب الحرية، من ذلك إيقاف التنفيذ ، والاختبار القضائي ، والعمل بغير مقابل للمصلحة العامة، والغرامة ، ودفع مبلغ من المال إلى بعض المؤسسات ، والحرمان من بعض الحقوق الخاصة أو العامة، والنفي والجزاءات المعنوية، وغيرها مما يدخل في صميم سلطة القاضي التقديرية عند تنفيذ العقوبة.
لما كان القانون يعني تلك القواعد القانونية الناتجة عن عملية التشريع أو المسطرة التشريعية المحددة في الدستور التي تحتكم لها جماعة معينة، فمنذ وجود الإنسان، وجدت معه قواعد قام بإبداعها من أجل التحكم في سلوكياته. أما المجتمع بكل بساطة هو مجموعة من الأفراد يتفاعلون فيما بينهم، وتربطهم علاقات سواء على المستوى الواقعي أو الافتراضي بغية إنتاج ثقافة معينة. لكن السؤال المطروح هو، ما هي العلاقة التي تربط بين القانون والمجتمع؟ وهل هناك حاجة للإنسان في علاقاته الاجتماعية للقانون؟. إن إعادة طرح هذا السؤال ليس إلا من أجل التأكيد على أهميته ومشروعيته في هذا الطرح، حتى يتسنى لنا القول بأن القانون ليس إلا منظومة من المنظومات المكونة للمجتمع، وهذا ما يعني أن القانون حقل من الحقول السوسيولوجية، أو أن القانون ظاهرة اجتماعية موجود بيننا بشكل دائم، فرضته علينا حاجة تنظيم علاقاتنا الاجتماعية.
وهذا ما عبر عنه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي المعاصر إيدجار موران بقوله أن المجتمع أنتج القانون الذي أنتجه، بمعنى أن هناك نوع من العلاقة الوجودية بين القانون و المجتمع، فالمجتمع ينتج القانون وهذا الأخير هو بدوره ينتج المجتمع من خلال تلك القواعد التي يسطرها وكذا الكوابح التي ينهجها. وقد اتجهت معظم التشريعات العالمية إلى التقليل وعدم الإفراط بقدر المستطاع في استخدام العقوبات السالبة للحرية لعدم جدواها في بعض الأحيان، ولتخفيف التكدس بالسجون، لدرجة أن بعض الدول، مثل هولندا وألمانيا تستخدم نظام قوائم الانتظار، والذي يسمح للإدارة العقابية بعدم التنفيذ الفوري لعقوبة السجن، ويبدأ هذا التنفيذ عند انتهاء محبوسين آخرين من تنفيذ عقوبتهم، كما منحت معظم التشريعات الجنائية الحديثة للقاضي الجنائي سلطة الأمر بإيقاف تنفيذ عقوبة السجن، تجنبًا لآثارها الضارة في الحالات التي يقدر فيها القاضي ذلك، وقد سعت تلك التشريعات إلى إتاحة بدائل لسلب الحرية، وهو ما يدل على أن السياسة العقابية الحديثة، تسعى بقدر المستطاع إلى تقليص دور العقوبات السالبة للحرية، ولا يتم اللجوء إليها إلا في حالات خاصة وباشتراطات معينة تقتضيها الضرورة.
ومن هنا فإنه يجب أن تتوجه سياسة التجريم إلى حماية المصالح الاجتماعية والتي تقتضي حماية المجتمع والإنسان من الاعتداء عليه، وتتضمن سياسة التجريم أيضا بيان القيم والمصالح الجديرة بالحماية العقابية، ومنع إلحاق الضرر بها بإهدارها وتدميرها كليا أو جزئيا أو التهديد بانتهاكها لأن الأضرار الجنائية ماهي إلا نشاط مخل بالحياة الاجتماعية، وكل مجتمع يحتفظ بقواعده وأفكاره وقيمه التي تضبط النظام الاجتماعي. فالقواعد الاجتماعية تنظم سلوك الأفراد والجماعات التي تمثلهم، وبعض هذه القواعد تهتم بها سياسة التجريم فتنقلها إلى قانون العقوبات، وفي هذا الإطار تباشر الدولة وظيفتها الجزائية لحماية المصالح الاجتماعية التي تسود المجتمع فتختار الجزاء الأكثر صلاحية والأقرب إلى التعبير عن مدى تقدير المجتمع لأهمية هذه المصالح.