باتت الحدود المصرية من جميع الجهات، مصدرا كبيرا لتهديدات استراتيجية شاملة تواجهها مصر حاليا، حيث تشكل الحرب في غزة عاملا من عوامل تصاعد التهديدات الأمنية في البحر الأحمر، وذلك نتيجة تدخل ميليشيات الحوثي في هذا الصراع كأحد الآليات الإيرانية، ضد الغرب عموما وإسرائيل خصوصا، وإذا كان أمن البحر الأحمر يشكل، منذ أكثر من عقدين، تحديا رئيسا للاقتصادات، وحركة التجارة العالمية؛ نتيجة أنه الطريق الرئيسي الذى يمر من خلاله نفط الخليج العربي، وإيران، إلى الأسواق العالمية خصوصا، إلى أوربا التي تلبي ٦٠ ٪ من احتياجاتها من الطاقة عبر البحر الأحمر، و الذي يتم عبره أيضا نقل نحو 25 % من احتياجات النفط للولايات المتحدة الأمريكية.
وقد تكون أزمة سفينة إيفر جرين عام 2021 التي استمرت حوالي أسبوع، كاشفة؛ بشأن تأثير البحر الأحمر، وقناة السويس على الاقتصاد العالمي، إذ تم احتجاز 100 سفينة من كل جانب، وتم انقطاع ما يقدر بنحو 9.6 مليارات دولار من حجم تدفق التجارة كل يوم، بالنظر إلى أن حوالي 12 ٪ من التجارة العالمية تمر عبر قناة السويس.
طبقا لذلك، فإن قرار بعض شركات الشحن العالمية الأخير برفع تكلفة الشحن عبر البحر الأحمر، كما فعلت الشركات الإسرائيلية التي رفعت تكلفة الشحن بنسبة زيادة ٤٠٠ ٪، أو قرار شركة مينرسك الدنماركية الضخمة بتحويل مسارات سفنها بعيدا عن البحر الأحمر، من شأنه أن يخلق اضطرابا كبيرا في حركة المرور التجارية حول العالم، وكذلك على صناعة الشحن، وله تأثير سلبي أيضا على عدد لا يحصى من سلاسل الإمداد الاقتصادية، والاستراتيجية حول العالم، وهو التأثير الممتد من الشركات المصنعة إلى مزودي النقل المحليين إلى تجار التجزئة، ومحلات السوبر ماركت، حيث أصبح البحر الأحمر مركزيا في الجغرافيا السياسية، والاقتصادية حول العالم.
أما على الصعيد المصري، فإن الاضطرابات الجارية في البحر الأحمر مؤثرة قطعا على قناة السويس، وعلى عوائد حركة المرور فيها، التي هي مكون مؤثر على الموازنة العامة المصرية، والبالغة في موازنة ٢٠٢٣ أكثر من ٩ مليارات دولار.
وبعيدا عن التهديدات الاقتصادية، فإن هناك تهديدات جيوسياسية مرتبطة بالدول المشاطئة للبحر الأحمر، ذلك أن مؤشر الدول الهشة الصادر في ٢٠٢٢، قد رصد، أن بعض بلدان البحر الأحمر هي من أكثر الدول ضعفا، وهشاشة حول العالم، مثل الصومال وإرتيريا والسودان واليمن. وبطبيعة الحال تكون تداعيات ضعف مؤسسة الدولة والانفلات الأمني، وبروز ظواهر تهريب الأسلحة، والإتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية، ونهب الموارد الأولية؛ لصالح ميليشيات وفواعل غير رسمية مثل الحوثي، وتنظيم شباب المجاهدين في الصومال، وهو الأمر الذي يعد إجمالا مصدرا إضافيا من مصادر التهديد الأساسية لأمن البحر الأحمر، ولدوله وأيضا بيئة مناسبة لصراعات الأطراف الدولية انطلاقا من منصات دول البحر الأحمر، حيث تبدو طبيعة التحديات المطروحة حاليا على دول البحر الأحمر مرتبطة بتقاطعات متشابكة منها ما يرتبط بالتضاغط الدولي الراهن الرامي إلى وضع محددات جديدة للنظام الدولي.
وهو ما ينعكس إقليميا على دول البحر الأحمر. وفي سياق مواز تشكل الطموحات الإقليمية، والرغبة في تأمين المصالح، على دوافع لبعض القوي الإقليمية، مثل إيران وتركيا فضلا عن رغبة إثيوبيا في تكوين قوة بحرية، رغم أنها دولة غير مشاطئة للبحر الأحمر، هو ما يزيد المشهد تعقيدا.
في سياق هذا النوع من التهديدات، يكون رد الفعل الدولي متوقعا، حيث أعلنت واشنطن على لسان وزير دفاعها لويد أوستن، عن قيادة الولايات المتحدة؛ لتحالف عسكري في البحر الأحمر؛ لمواجهة التهديدات الصادرة من اليمن، ضد السفن التجارية طبقا لعلاقتها بإسرائيل.
وعلى الرغم من أن رد الفعل الأمريكي كان متوقعا، لكن من المهم هنا ملاحظة عدد من المعطيات المثيرة للتساؤلات، منها أن الدعوة لتحالف عسكري لحماية البحر الأحمر غير مبرر في ضوء وجود قواعد عسكرية لدول متعددة في البحر الأحمر، بما فيها مصر، حيث أن مناهج عسكرة البحر الأحمر التي بدأت قبل عقد ونصف تقريبا؛ كنتيجة لبروز ظاهرة القرصنة من السواحل الصومالية بعد انهيار مؤسسة الدولة، ونتج عن ذلك وجود قواعد عسكرية للعديد من دول العالم في جيبوتي بداية من الولايات المتحدة الأمريكية مرورا بالصين وفرنسا، وليس انتهاء بالمملكة العربية السعودية، وسنغافورة واليابان وغيرهم.
أما المعطى الأهم والمثير للدهشة حقا، أن تدعو الولايات المتحدة لتحالف عسكري جديد، بينما يقود الأسطول الخامس الأمريكي حاليا تحالفا أمنيا من 34 دولة، وذلك في نطاق عملية فرقة عمل بحرية جديدة CMF-153 دولة؛ لتعزيز أمن البحر الأحمر وخليج عدن. اعتبارا من إبريل ٢٠٢٢، وهي رابع فرقة معنية بهذه المهام، حيث تكونت الفرقة الأولى من ١٢ دولة عام2001، حيث تعد إسرائيل عضوا فاعلا في هذا التحالف انطلاقا من أهمية البحر الأحمر الاستراتيجية لها، وتأثيره على اقتصادها عبر التفاعل مع كل من آسيا وشرق إفريقيا، فضلا عما يشكله النفوذ الإيراني فيه من تهديدات أمنية لإسرائيل، فإن السياسات الإسرائيلية عنصر فعال في الآليات الأمريكية، لضمان أمن البحر الأحمر، خصوصا بعد درس إغلاق باب المندب في حرب أكتوبر ١٩٧٣.
في هذا السياق، فإن هناك وجودا عسكريا مباشرا لإسرائيل في البحر الأحمر في قواعد في رواجيات ومكهلاوي، كما تمتلك إسرائيل قواعد جوية في جزر حالب، وفاطمة عند مضيق باب المندب، وقامت باستئجار جزيرة دهلك، حيث أقامت قاعدة بحرية، كما تقوم إسرائيل بعمليات متابعة ومراقبة عسكرية مستمرة، حيث أن حوالي نصف القوات الجوية الإسرائيلية (449 طائرة قتال) توجد قريبا من البحر الأحمر في قواعد النقب، وتقوم هذه القوات بدوريات، وطلعات فوق هذا البحر حتى مدخله الجنوبي.
فضلا عن تواجد قوات فرقة مدرعة إسرائيلية كبيرة، توجد في المنطقة العسكرية الجنوبية قريبا من البحر الأحمر، وتعمل في مجالات الاستطلاع، والمساحة وتخزين الأسلحة والعمل في البحر بالتعاون مع القوات الأمريكية في المنطقة، في العملية المشار اليها سالفا.
في هذا السياق من المهم ملاحظة، أن الدعوة الأمريكية للتحالف العسكري الجديد قد كشفت علنا عن الحالة التنافسية في المعسكر الغربي لأول مرة، إذ قالت فرنسا، إنها متمسكة، بأن تكون تحركاتها العسكرية في البحر الأحمر تحت قيادتها، وربما يكون ذلك ردا على السلوك الأمريكي المضاد لها في دول الساحل، والذي كسبت فيه واشنطن مساحات جديدة في إفريقيا على حساب باريس.
وبطبيعة الحال، لا يمكن عزل الأداء الأمريكي الراهن في البحر الأحمر عن الصدام الاستراتيجي بين الولايات المتحدة من جهة، وكل من الصين وروسيا من جهة أخرى، حيث يشكل مشروع الحزام والطريق الصيني تحديا استراتيجيا للولايات المتحدة التي تعتبره مشروع هيمنة عالمي.
أما على الصعيد الروسي الأمريكي، فإنه رغم الفشل الروسي في الاستقرار على قاعدة عسكرية في البحر الأحمر؛ بسبب المقاومة الأمريكية التي عرقلت وجود هذه القاعدة في جيبوتي، ودور واشنطن في تنفيذ اتفاق بين نظام البشير موسكو، لإنشاء قاعدة عسكرية على السواحل السودانية؛ فإن المجهودات الروسية؛ لاختراق هذا الوضع قائمة، حيث سعت موسكو خلال العام ونصف العام الماضيين؛ لتطوير حضورها العسكري في عدد من دول المنطقة.
ففضلا عن وجود موسكو المؤثر في إفريقيا الوسطى، فقد جرى توقيع اتفاقية عسكرية بين أديس أبابا وموسكو في يوليو 2021. وذلك لتدريب وتسليح الجيش الإثيوبي الذي تضرر بشكل بالغ في الحرب في تيجراي، بكل ما لهذا من أبعاد أمنية استراتيجية تصب في تعزيز النفوذ الروسي في المنطقة بالنظر إلى الدور المحوري لإثيوبيا في الإقليم، ولأهمية الجيش الإثيوبي الذي مثَّل أكبر الجيوش في منطقة شرق إفريقيا.
وبجانب التنسيق السياسي العالي بين روسيا وإريتريا، فإن موسكو تعتبر المورِّد الأكبر للسلاح إلى الجيش الإرتيري، حيث أعربت أسمرا عن رغبتها باستئناف التعاون العسكري مع روسيا في حين ذهبت بعض المصادر إلى حصول إريتريا على طائرات روسية مسيَّرة، بالنظر إلى العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على الجيش الإريتري، والتوتر الشديد في العلاقة بين الطرفين.
ويمكن القول إجمالا، أن بيئة البحر الأحمر قد أصبحت ضاغطة على مصر، حيث تتركز فيها الصراعات والتنافسات الإقليمية والدولية، حيث أصبح البحر الأحمر مصدر خطر جديد مضاف إلى المخاطر المنبثقة عن الأوضاع على جميع الحدود المصرية في كل من السودان وغزة وليبيا.