انتهت الانتخابات الرئاسية، وبقت أسابيع قليلة وربما أيام ويقوم الرئيس عبد الفتاح السيسي بحلف اليمين الدستورية لتولى فترة الرئاسة الثالثة والأخيرة. فترة الرئاسة القادمة والمرجح أن تستمر حتى العام 2030، يبدو أنها ليست (ويجب ألا تكون) كسابقتها. في السنوات الماضية لحكم الرئيس السيسي كان هناك دعم خليجي قوي لمصر، وقد بدأ هذا الدعم يتلاشى، وهو ما يشكل اليوم نوعا من القيود على صانع القرار المصري. في الفترة الماضية برز هناك نوع من الضغوط من قبل صندوق النقد الدولي، خاصة فيما يتعلق بالضغوط الخاصة بضرورة استعادة القطاع الخاص لمكانته التي كان عليها، بعد هيمنة مؤسسات رسمية بعينها على اقتصاد البلاد.
هناك أيضًا ضغط الشارع الذي أصبح لا يطيق موجة الغلاء المتواصل، والذي يحصد يوميًا أعدادا متزايدة من الطبقات المتوسطة بشرائحها المختلفة؛ ليحشرهم ضمن الطبقات الدنيا، فيزيد من معدلات الفقر، لا سيما بسبب تركز موجات التضخم في قطاع الغذاء. وإذا أضيف إلى كل ذلك توالي الضغوط الخارجية على الاقتصاد المصري منذ أربع سنوات، تارة بسبب تهديد كوفيد 19، وتارة بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وأخيرا تهديد الترانسفير اليومي، والخشية من اقتحام معبر رفح من قبل الجوعى الفلسطينيين، بسبب أحداث غزة الدموية.
مع كل ما سبق، تكتمل صورة الأوضاع السيئة التي شهدتها فترة الرئاسة الأولى، والثانية للرئيس السيسي، ما يؤكد على أهمية التطلع لنمط جديد وتغيير حقيقي؛ ليختتم الرئيس فترة حكمه في 2030، وقد تذكره المصريون، بأنه استطاع أن ينتشل بلاده من براثن الفقر والعوز، بعون من حكومة تكنوقراطية جديدة بغض النظر عن الانتماءات السياسية والحزبية لأفرادها، وبسواعد أبناء الأمة من رجال الأعمال من القطاع الخاص، والمهنيين والعمال والفلاحين، وبجيش قوى لا يهتم إلا بحماية أمن مصر القومي، وثغورها لا اقتصادها، لا سيما من قبل حدودها الشرقية، وكذلك أمنها المائي.
واحد من أولى الأمور التي يجب أن تكون محل اهتمام، هي فتح الباب أمام الاستثمارات الإنتاجية الوطنية والأجنبية، بما يدعم ميزان مصر التجاري، ويحقق معادلة معتبرة للعملة المحلية أمام العملات الأجنبية، ويضمن عدم هروب العملة الأجنبية إلى الخارج من قبل الاستثمارات الأجنبية، ومن ثم يُصلح ذلك من موجات التضخم الذي وصل إلى 40 %، قبل أن يقل، ويتراجع مؤخرًا إلى 36 %، وذلك كله يضمن نموا أفضل للاقتصاد. هذا الأمر يحتاج إلى حوافز جديدة للاستثمار، لا سيما مع توقع زيادة الفائدة البنكية على المدخرات، وهو أمر رغم كونه يحد من التضخم، لأنه يحد من السيولة، ومن ثم يخفض الطلب، فلا تنفلت الأسعار، إلا أنه يحد من فرص الاستثمار. كل هذا الأمر يشكل تحديا كبيرا، فالثوب تهلهل، وما أن يتم ترقيعه أو رتقه من هنا إلا، ويتمزق من الناحية الأخرى. قد يكون دخول مصر عضوية البركس اعتبارا من الأول من يناير 2024 فرصة جيدة؛ لتحسين الوضع الاقتصادي، ما يجعل الأمر أفضل نسيبا، كما سيكون من الفرص الحصول على قرض أوروبي موعود؛ لمواجهة آثار حرب غزة. لكن سيكون من المهم عدم إنفاق القرض على تحسين الطرق أيضا، أو على سداد الأقساط الضخمة لدين الـ 165 مليار دولار!!!.
ثاني الأمور المهمة – وارتباطا بما سبق- أن يتم الحد الكبير من القروض الأجنبية، فهي من أثقل كاهل الاقتصاد، خاصة أنها بدأت، تناطح حائط الناتج القومي الإجمالي. هناك بلا شك استحقاقات بشأن خدمة الدين في الأشهر القادمة، ما يجعل الدين الخارجي يزيد، بعد أن وصل اليوم إلى نحو 165 مليار دولار. هذا الأمر يجعل من المحتم على صانع القرار، ألا يهتم إلا بالحصول على القروض بغرض الإنتاج فقط، وبالمقابل يعفو عن القروض التي ثبت، أنها لا داعي لها على الإطلاق، خاصة قروض دعم الطرق والقطار الكهربي والمنوريل، والتي أُنفق عليها حسب تصريح الرئيس السيسي في احتفال عيد الشرطة مطلع يناير الماضي، بأنها 2 ترليون جنيه، وهو ما يزيد عن ربع حجم الدين الخارجي. هنا من المهم، أن يحاكي صانع القرار المصري صانع القرار التركي، الذي يستغل امتصاص بلاده لملايين اللاجئين؛ لتلقي الدعم من أوروبا. هنا يتحتم أن تحصل مصر على منح، لا ترد من أوروبا؛ بسبب أعداد اللاجئين الضخمة من السودانيين والسوريين واليمنيين وغيرهم، وهو أمر لا يتنافى مع رفضها المطلق، والمهم والواجب دعمه بكافة الوسائل؛ لرفض الترانسفير الفلسطيني، وهو ما يتحتم أن يتواكب مع إدخال كافة المساعدات للفلسطينيين، ولتكن البداية بالمساعدات الغذائية والوقود واستقبال الجرحى، دون انتظار موافقة المحتل الصهيوني. هنا يجب أن يضع صانع القرار المصري في الاعتبار، أن المقاومين في غزة هم تقريبا، يحاربون نيابة عنه، أو أنهم على أقل تقدير حائط صد بينهم، وبين النازيين الجدد.
ثالث الأمور المهمة الأمن المائي لمصر، حيث وصل الأمر، إلى أن إثيوبيا تقوم كل عام بملء جديد للسد، وفي صيف العام القادم، سيكون الملء الخامس للسد، فهل سيتكرر الصراخ المصري كما اعتدنا كل عام بسبب الملء دون اتفاق؟ واحد من السياسات المهمة التي يجب تبنيها، ولو من قبيل الأعمال غير المعلن عنها، هو معاقبة إثيوبيا على فعلها، ليس بتدمير السد الذي سيدمر السودان حال قصفه. فهذا التدمير أصبح قرارا متأخرا، لكن العقاب يكون من خلال أعمال ترتبط بتخريب التربينات، ما يجعل إعادة تشغيلها مكلف لإثيوبيا، وتمويل الحرب الداخلية في إقليم تيجراي وأمهرة، وكذلك دعم القبائل العربية الكائنة على حدود السودان وإثيوبيا؛ للتمرد (إقليم بني شنقول).. إلخ. خلاصة القول، يجب ما دام أن إثيوبيا تماطل، وتسوف في مسألة أمن مصر المائي، أن يجعلها صانع القرار المصري تعض الأنامل، وتكتوي بنار أفعالها، بعد أن استغلت الاتفاق الإطاري مع مصر والمثير للجدل (مارس2015)؛ لاكتمال بناء السد.
رابع المهام التعليم والصحة، وهذان هما الهم الأكبر؛ لترميم عديد الأوضاع الاجتماعية في البلاد. مشكلات التعليم معروفة، وترتبط مظاهرها بالمدرس والمنهج والمبنى والإدارة والدروس الخصوصية، والتقويم وتعدد الأنواع. ومشكلات الصحة معروفة أيضا، وتتصل بالتأمين الصحي وقصور الطواقم الطبية من أطباء، وتمريض وأسعار الدواء وأشكال العلاج وتجهيز أقسام الطوارئ بالمستلزمات، وأجهزة الرعاية المركزة والمعدات بكافة أنوعها. كل ذلك يستلزم إعمال الدستور، وهو ما يرتبط، بما يستصرخ به المهتمون والمتخصصون للسلطة دوما؛ لإعمال وتخصيص النصيب المحدد لكل هؤلاء في الموازنة العامة (بدلا من الطرق، والنقل التي ابتلعت ربع حجم الدين الخارجي)، وفق ما قرره الدستور للصحة والتعليم الجامعي، والبحث العلمي من نسب 3 % و4% و2 % و1 % وطبقا لما ورد في المواد 18 و19 و21 و23 من إنفاق حكومي قياسا للناتج القومي الإجمالي، وهو ما تجاهلته توصيات الحوار الوطني مؤخرًا، رغم قرارات لجانه التابعة المؤكدة على إعمال مواد الدستور، الذي أقر في م238 سقف موازنة 16/2017؛ لإعمال كل النسب السابقة.
خامس المهام فتح المجال العام بالعودة عن سياسات عديدة، لم يعد من الممكن الاستمرار فيها، لا سيما مع حاجة الناس لمتنفس في ظل أزمة اقتصادية، واجتماعية طاحنة. ما يسهل فتح المجال العام، أنه إجراء مجان، وغير مكلف عكس الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية سابق الإشارة إليها، ناهيك عن أنه سيدعم الشرعية والاستقرار. العفو العام عن سجناء الرأي، وقانون جديد، ينظم مسألة الحبس الاحتياطي، وتشديد الرقابة؛ لمنع الفساد المالي والسياسي والمحسوبية، وتحسين أوضاع السجون والرقابة الدورية عليها، وعلى أقسام الشرطة، وانفتاح الإعلام وتنوعه وعدم الهيمنة عليه من قبل السلطة التي سعت بجدية؛ لتأميمه كي يكون صوتا واحدا، واستقلال القضاء بشكل حقيقي برفع اليد عن تعيين السلطة لرؤساء هيئاته، وجهاته المتنوعة (حتى لو نص الدستور على ذلك)، وهو ما يدعم الاستثمار الأجنبي، وسن قانون لانتخابات برلمانية وفق نظام نسبي عوضًا عن نظام القائمة المطلقة المعيب، والذي يعد بمثابة تزكية أو شكل من أشكال التعيين، وضمان عقد انتخابات حرة ونزيهة، تفتح الباب أمام تعددية حقيقية، وليست مصطنعة، كما جرت الانتخابات الرئاسة الأخيرة، وعقد انتخابات المحليات، ورفع الضغوط عن الأحزاب السياسية، وتشجيع دمجها وتواجدها في الشارع، كي تتمكن من خلق رئيس بديل، لا سيما ونحن على أعتاب العام 2030، سنحتاج إلى وجود قيادات حزبية تستطيع المشاركة في الانتخابات التي لن يكون الرئيس السيسي مشاركا فيها.