هالتني المعركة الكلامية بالغة الشراسة التي خاضها البعض-وما زال- ضد التنوير؛ بسبب موقف بعض التنويريين من الفصائل الفلسطينية التي تقاوم ممارسات الدولة الصهيونية بحق سكان غزة، منذ نحو ثمانين يومًا، وكأن لا تنويريًا إلا مُتَصَهينًا على حد وصف أحدهم. سأكون صريحًا بلا مواربةٍ ولا تنميقٍ في حديثي للقارئ الكريم، بهذا المقال، فالأمر لم يعد يحتمل توصيفاتٍ مُلتَبِسةٍ، تأسست على مفاهيم خاطئة، بقصدٍ أو بغير قصد، فأدت في نهاية الأمر إلى الزج بالتنوير كأحد أهم، ما أفرزته الحضارة الإنسانية من قِيَّمٍ في أتون معركة، يتعين خوضها بمنتهى وضوح الرؤية المحكومة بموضوعية ثقافةِ العِلمِ والعقل، لا بِسَطوةِ تهويمات الأسطورةِ والنَقل.

لم تكن المعركة الكلامية ضد التنوير سوى تعبير شديد الوضوح، عما أشرتُ إليه بمقالي في الأسبوع الماضي عن سرديةِ الصراع ثنائي الهُوية الدينية الذي ما زلنا نكتوي بناره، منذ أن سقط المشروع العروبي في 1967. بدأت المعركة الكلامية بهجوم خاضَهُ بعضٌ من التنويريين، ضد ما قامت به المقاومة الفلسطينية من أعمالٍ في السابع من أكتوبر. كان هجوم هؤلاء مدفوعًا برؤيةٍ لا علاقة لها بأصل الصراع، إذ كان (الهجوم) مؤسَسًا على أرضيةِ مواقفهم الناقِدة للتركيبة الثقافية للجماعات التي وضعتها الظروف الموضوعية-للمفارقة التاريخية- في موقع قيادة المُقاومة الحالية.

بِحُكم كوني واحدًا من أبناء التيار التنويري، كنتُ قد قدمتُ عَبر سنواتٍ، نقدًا أحسبه موضوعيًا، للتركيبة الثقافية والبنيوية للمنبع الذي خرجت من عباءته تلك الجماعات، بما شَمَل تفكيكًا للأسس التي طَوَرت بموجبها خطابها السياسي والاجتماعي الماضوي. لكن كان دومًا للمقاومة عندي شأن آخر، خصوصًا وقد مثَلَت في حراكها الأخير، ذروة تراكم النضالات التاريخية للشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني الذي يمارس أحَط أنواع العنصرية المدعومة بمالٍ وفيرٍ، والمُسلحة بآلة قتل عسكرية لا مثيل لها، مَكَنَتهُ من اقتراف جرائم، تجاوزت كل ما يمكن للوثائق الأممية أن تحيط به خُبرا، تحت مظلة مفاهيم خرافية عن نهاية التاريخ. لم ينسحب موقفي الناقد للأصولية الدينية، على تقييمي لأصل الصراع، ونهج المقاومة التي لا يتخذ منها التنوير موقفًا سلبيًا، بل هو يَحُضُ عليها حضًا.

“التنوير هو تَحرُر الفرد من الوصاية التي جلبها لنفسه. الوصاية هي عدم قدرة الفرد على استخدام فهمه الخاص، دون توجيه من الآخر. ليس القصور العقلي سببًا في جلب الوصاية، بل السبب هو انعدام الإقدام والشجاعة على استخدام العقل، دون توجيه من الآخر. تشجع؛ لتعلم، فلتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك الخاص”. كان هذا هو ما قاله الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، في تعريف التنوير بمقالٍ أصدره في أواخر القرن الثامن عشر، لتنفتح أمام أوروبا أبواب حضارة إنسانية جديدة بدفعٍ من مشروع كانط التنويري. كاد عالمنا العربي أن يبدأ في القرن التاسع عشر بمشروعٍ مُماثلٍ، حالت دون استكمال مسيرته أدرَان فكرية سابقة، ثم أتت نكبة 1948، وما مَهَد لها من مقدماتٍ، بدأت في 1915، لِتُرَسَخ نوعًا من القطيعة التاريخية؛ لتطور الفكر العربي.

التنويرُ- إذن- في معناه المُجَرد: هو التَحرُر من الوصاية بكافة صورها. والتَحرُر: هو فِعلٌ مُتَدَرِجٌ قائمٌ على الإدراك من خلال استخدام العقل، بغرض أن يصبح لدى الفرد أو المجتمع حق اتخاذ أي قرار بمحض إرادته؛ لتطوير ذاته، دون ضغوط، فالحرية الكاملة هي الهدف الأسمى في مسار التنوير؛ لانعتاق الإنسان، ومن ثم لانطلاقه صوب الأفضل. والأفضل لا يتحقق إلا بالخلاص من الاستعباد بكل تنويعاته، سواء كان استعبادًا فكريًا، يتمثل في سطوة التراث العقلية على الحاضر والمستقبل، أو كان استعبادًا استعماريًا يتمثل في تَحَكُم المُحتل بمقدرات ومصائر الشعوب.

يقول جان جاك روسو، في نقد نظام الرِق: “نظام الرِق لاغٍ. ليس فقط؛ لأنه غير شرعي، وإنما أيضًا، لأنه عبثي ولا معنى له. لا يمكن لنظام العبودية والقانون، أن يجتمعا. إنهما متناقضان. ولو كنت زعيمًا لأحد شعوب إفريقيا السوداء؛ لنصبتُ مشنقة على الحدود، وعَلقتُ عليها أول أوروبي، يتجرأ على دخول البلاد”. فليتأمل القارئ الكريم معي، آخر جُملةٍ وردت على لسان روسو في نقده لنظام الرِق. كان روسو يتحدث عن مشروعية المقاومة، حين دعا زعماء الشعوب الإفريقية؛ لمقاومةِ نَخَاسي أوروبا بتعليقهم على المشانق، إن سَوَلت لهم أنفسهم دخول البلاد. وهنا نكون قد وصلنا إلى روح التنوير المُفترى عليه، كما أفهمها وغيري من الناس، حيث التنوير في ذاته، فِعلُ مُقاومة.